أخذ الميثاق عليهم وعلى الإنسانية:
وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 171 ) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ( 172 ) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ( 173 ) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ( 174 )
ميثاقان يذكرهما الله تعالى ، واحد منهما خاص ببني إسرائيل لأنه يتعلق بميثاق التوراة ، والثاني يتعلق بميثاق الإنسانية كلها .
والأول قال الله تعالى فيه:{ وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} .
نتقنا معناها رفعنا ، ولكن يظهر أنها لا تكون إلا في رفع الثقيل الذي لا يستطيعه إلا الأقوياء ، فمن الألفاظ العربية ألفاظ تحمل في نفسها قوة المعاناة في دلالتها ، فلا نقول:نتقت العصا ، أو نتقت السيف ، ولكن قد تقول:نتقت الجبل ، أو نتقت أطنان الحديد . ولقد نتق الله الجبل وعلا عليهم ، وكأنه ظلة من ظلال السحاب فوق رؤوسهم ، ولأنه جبل أو جرم كبير ثقيل{ وظنوا أنه واقع بهم} ، أي واقع نازل بهم قاصد رؤوسهم . والله يقول:{ خذوا ما آتيناكم بقوة} ، أي خذوا التعاليم في الحلال والحرام ، وما كلفتموه عامة بقوة ، أي بتقبل منكم ، ورضا به ، واطمئنان إليه واذكروا ما فيه أي اذكروه وتدبروه ، وعوا ما فيه ، واعملوا به لعلكم تتقون ، والرجاء منهم ، أي راجين بذلك أن تتقوا السيئات . بل إن تتقوا شر أنفسكم الأمارة بالسوء ، وهذا كقوله تعالى:{ وإذ اخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة . . . . . . . . . . . . . ( 63 )} ( البقرة ) ، وقد يسأل سائل:لماذا كان رفع الجبل مع إعطائهم الميثاق بقوة ؟ الظاهر أنهم ترددوا في قبوله وتلكأوا كشأنهم دائما في قبول الحق المنزل والعمل به ، فأتى موسى – عليه السلام – معجزة حسية قاهرة تلزمهم ، ولا يحيرون جوابا فيها ، فكان نتق الجبل ، وكانت هذه المعجزة الرهيبة الدافعة إلى الإيمان ، المانعة من كل تردد ، وقد جاءت الآثار بما يفيد ذلك:روى ابن كثير أن موسى è- عليه السلام – قال لهم:هذا كتاب تقبلونه بمن فيه ، فإن فيه بيان ما أحل لكم وما حرم عليكم ، وما أمركم وما نهاكم ، قالوا:انشر علينا ما فيها – أي الألواح – فإن كانت فرائضها وحدودها يسيرة قبلنا . قال:اقبلوها بما فيها . قالوا:لا حتى نعلم ما فيها ، كيف حدودها وفرائضها ، فراجعوه مرارا ، فأوحى الله تعالى للجبل ، فانقلع ، فارتفع إلى السماء حتى إذا كان بين رؤوسهم والسماء فقال لهم موسى:ألا ترون ما يقول ربي عز وجل ؟ ! فأخذوا التوراة وهو الميثاق بهذه القوة الدافعة .