يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( 31 ) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 32 ) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون ( 33 )
هذه الآيات الكريمة تبين ما أحل الله تعالى وما حرم ، وأن ما أحله الله تعالى طيب فإنه تعالى طيب لا يحل إلا طيبا ، وما حرمه هو خبيث في ذاته من أفعال وأشياء ، وقد ابتدأ – سبحانه وتعالى – بإحلال ما كان العرب يحرمونه من ستر أنفسهم في الحج عند الطواف بالبيت الحرام ، فقال تعالى:{ يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ( 31 )} كان بعض العرب يطوفون عراة ، كما بينا في ذكر معاني الآيات السابقة ، وإن الله تعالى قد أنعم علينا باللباس الذي يواري سوءاتنا والريش من الثياب الذي نتزين به ، لنبدو في أقوم صورة ، أو في صورة لا تشنأها الأنظار ، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:( إن الله جميل يحب الجمال ) ( 1 ){[1095]} ؛ ولذا قال تعالى:{ يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} النداء لبني آدم يشمل الناس أجمعين لقوله تعالى:{ يا بني آدم} ، فلماذا اختص النداء هنا قوله تعالى:{ يا بني آدم} ونقول في الجواب عن ذلك الاستفهام المفروض أن ذلك للتذكير بحال آدم وزوجه عند إخراجهما من الجنة ، وبدت سوءاتهما وأخذ يخصفان عليهما من ورق الجنة .
وقوله تعالى:{ خذوا زينتكم عند كل مسجد} ، معناه البسوا لباسا يكون فيه زينة وتجمل لكم ، وقال تعالى:{ خذوا زينتكم} معناه تحروا أن تأخذوا لباسكم متزينين متجملين بها ، عندما تدخلون أي مسجد ، وإن ذلك لتكون المساجد نظيفة دائما ، ويحسن فيه الطيب ليكون فيها أريج تطيب له الأنفس وتقبل عليه جموع المصلين ، وإن ذلك يوجب أمرين .
أحدهما – ستر العورة باللباس السابغ الطيب الذي هو زينة في ذاته ، والعرى فيه ظهور للعورات ، والعورات سوءات يسوء النظر إليها .
ثانيهما – أن يكون ثمة تجميل ، وقد حسن النبي صلى الله عليه وآله وسلم التجمل عند دخول المساجد ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتجمل في ثيابه ، ولا يتبذل فيها ، وخصوصا في المسجد ، وعند استقبال الوفود .
ويقول تعالى:{ وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} ، هذا أمر بالأكل وهو في معنى الإباحة بالجزاء بأكل أي جزء ، أو أي نوع فيأكل برا أو تمرا ، أو شعيرا أو أرزا . ويجب بالكل ، فلا يصح أن يحرم نفسه من الطعام ، وإلا أودي بنفسه إلى الهلاك ولا يحرم على نفسه نوعا من الطعام دون نوع ، كالذين يحرمون على أنفسهم أكل اللحوم فإنه يجب عليهم أن يتناولوها ، حتى لا يقعوا في النهي في قوله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم . . . . . . . . . ( 87 )} المائدة ) .
ولقد روى الإمام أحمد بن حنبل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:( كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير سرف ولا مخيلة ) ، والإسراف يكون في ناحيتين:
إحداهما – أن ينفق مبذرا فوق طاقته ، بأن يكثر من الضيفان فوق طاقته فإن ذلك تبذير منهي عنه ، وقد قال تعالى:{ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين . . . . . . . . . . ( 27 )} ( الإسراء ) .
والثانية – أن ينال من الطعام ما يثقل معدته وأمعاءه ، وجسمه ، ولقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه النسائي والإمام أحمد:( ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن ؛ حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة ، فثلث طعام وثلث شراب وثلث لنفسه ) ( 1 ){[1096]} .
وإن الإسراف في الطعام يختلف مقداره ونوعه باختلاف حال الطعام ، فإن كان مريضا ، فما يؤدي إلى زيادة مرضه إسراف ، وإن كان قويا معافى فلا يتناول ما يؤدي إلى إتخامه ، فإن زاد فقد أسرف ، وقد قال تعالى في صفات المؤمنين:{ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ( 67 )} ( الفرقان ) .
وقد بغض الله تعالى الإسراف للناس بيان أنه سبحانه لا يحبه ولا يرضاه لعباده فقال تعالى:{ إنه لا يحب المسرفين} لأن الإسراف يؤدي إلى إضرار أبدانهم ، وحرمان لغيرهم ، وضياع لذوي الحاجة في الجماعة الإسلامية كما قال ابن عباس:ما من مسرف إلا ووراءه حق مضيع . وقد أكد – سبحانه وتعالى – بغضه للإسراف بنفي المحبة ، ومحبة الله مطلب المؤمنين .