{ يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ 31 قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون 32}
روى مسلم في صحيحه والنسائي والبيهقي في سننهما ومخرجو التفسير المأثور عن ابن عباس أن النساء كن يطفن بالبيت عراة إلا أن تجعل المرأة على فرجها خرقة وتقول:
اليوم يبدو كله أو بعضه *** وما بدا منه فلا أحله{[1141]}
وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال كان الناس يطوفون بالبيت عراة يقولون:لا نطوف في ثياب أذنبنا فيها ، فجاءت امرأة فألقت ثيابها فطافت ، ووضعت يدها على قلبها وقالت:( البيت ) فنزلت هذه الآية{ خذوا زينتكم عند كل مسجدإلى قولهوالطيبات من الرزق} ( والروايات في هذا المعنى كثيرة عن ابن عباس وتلاميذه وغيرهم من مفسري السلف وفي بعضها عنه أنهم كانوا يطوفون بالليل عراة وأكثرها مطلقة .وفي بعضها عنه:كانت العرب إذا حجوا فنزلوا في أدنى الحل نزعوا ثيابهم ووضعوا رداءهم ودخلوا مكة بغير رداء إلا أن يكون للرجل منهم صديق من الحمس فيعيره ثوبه ويطعمه من طعامه ، فأنزل الله{ يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} .
وفي رواية عن طاوس أنهم كانوا يضعون ثيابهم خارجا من المسجد ويدخلون فإذا دخل رجل وعليه ثيابه يضرب وتنزع عنه ثيابه ، فنزلت .وعن قتادة حكاية ذلك عن حي من اليمن والصواب أنه عام ولم يكن أحد من العرب يلبس ثيابه في الطواف إلا الحمس{[1142]} من قريش فإنهم كانوا يميزون أنفسهم على سائر الناس:يطوفون بثيابهم وهذا حسن في نفسه دون الانفراد به ويأتون البيت من ظهره لا من بابه إذا كانوا محرمين ، وقد أبطل هذا كتاب الله تعالى بقوله:{ وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وائتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون} ( البقرة 189 ) ويقفون عند المشعر الحرام ( جبل قزح ) بمزدلفة لا في عرفات .
ويعللون هذا بأنهم أهل الحرم فلا يخرجون منه ، وعرفة خارج حد الحرم المعروف بالعلمين المنصوبين اللذين ينفر الحجاج من بينهما عند الدفع منها إلى المزدلفة ، ولذلك ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في حجة الوداع إلى الموقف كانت قريش لا تشك في أنه يقف عند المشعر الحرام بمن معه من قريش ويأمر الناس بأن يذهبوا إلى عرفة فيقفوا فيها فخاب ظنهم ، وأبطل النبي صلى الله عليه وسلم امتيازهم وسن لهم ولغيرهم المساواة .وبدأ صلى الله عليه وسلم بنفسه حتى إنه أبى أن يتخذ لنفسه مكانا في منى يستظل فيه من الشمس لما أرادوا عمله له .وقال: "منى مناخ من سبق "{[1143]} رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم عن عائشة بسند صحيح .
وجملة القول إن الروايات في سبب نزول هاتين الآيتين قد روي مثلها في نزول ما قبلهما من آيات اللباس كما تقدم مختصرا .والمعنى أن هذه الآيات كلها نزلت مبطلة لتلك الضلالة الجاهلية الفاحشة ومقررة لوجوب اتخاذ الملابس للستر ولزينة التجمل وإظهار نعمه الله على عباده .قال عز وجل:
{ يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِد} يقال في هذا النداء ما قلنا في مثله قبله ونزيد أنه يشمل النساء بالتبع للرجال شرعا لا لغة ويدل على بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى جميع البشر .والظاهر أن هذه الوصايا مما أوصى الله تعالى به من سبق من الرسل وسنعود إلى هذا في تفسير آخرها ، والزينة الشيء أو الشخص فهي اسم من زانه يزينه زينا ، ضد شانه أي عابه يشينه شينا .وأخذها عبارة عن التزين لأنه إنما يحصل بأخذ ما يزين واستعماله والمراد بها هنا الثياب الحسنة المعتادة بدليل القرينة والإضافة وسبب نزول الآيات وإلا فأنواع الزينة في الدنيا كثيرة ومنها المال والبنون فلا يدخل فيها ما هو خاص بالنساء من الحلي والحلل التي يتحببن بها إلى أزواجهن وقد تكون شاغلة عن العبادة وأقل هذه الزينة ما يدفع عن المرء أقبح ما يشينه بين الناس وهو ما يستر عورته وقد اقتصر بعضهم على هذا لأجل جعل الأمر للوجوب وإنما يجب لصحة الصلاة والطواف ستر العورة فقط على ما جرى عليه جمهور الفقهاء على اختلافهم في تحديد العورة وقالوا:إن ما زاد على ذلك من التجمل بزينة اللباس اللائق عند الصلاة ولاسيما صلاة الجمعة والجماعة وفي العيدين سنة لا واجب ، ولكن إطلاق الأمر يدل على وجوب الزينة للعبادة عند كل مسجد بحسب عرف الناس في تزيينهم المعتدل في المجامع والمحافل ليكون المؤمن عند عبادة الله تعالى مع عباده المؤمنين في أجمل حالة لائقة به لا تكلف فيها ولا إسراف فمن قدر بلا تكلف على عمامة وإزاء ورداء أو ما في معناها من قلنسوة وجبة وقباء ، لا يكون ممتثلا للأمر بالزينة إذا اقتصر على إزار يستر العورة فقط ( وهي عند بعض الأئمة السوءتان فقط وعند الجمهور ما بين السرة والركبة ) للرجل وما عدا الوجه والكفين للمرأة وإن صحت صلاته فإن المقام ليس مقام بيان شروط صحة الصلاة بل هو أوسع من ذلك ، ومن العلماء من يقول:إن ستر العورة في الصلاة واجب لا شرط لصحتها .وأن فيما ورد من الأخبار والآثار في المسألة ما يدل على ما قلنا حتى جعلت النعال من الزينة وهي كذلك وإن تركها جميع المسلمين في المساجد لأنهم يفرشونها كما يفرشون بيوتهم بالحصر أو بالبسط والطنافس .
أخرج الطبراني والبيهقي في سننه عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم"أي أراد الصلاة "فليلبس ثوبيه فإن الله عز و جل أحق من تزين له فإن لم يكن له ثوبان فليتزر إذا صلى ولا يشتمل أحدكم في صلاته اشتمال اليهود "وأخرج الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء "{[1144]} وأخرج أبو داود والبيهقي عن بريدة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل في لحاف ( ثوب يلتحف به ) واحد لا يتوشح به ونهى أن يصلي الرجل في سراويل وليس عليه رداء{[1145]} وأخرج ابن عدي وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا زينة الصلاة قالوا وما زينة الصلاة ؟ قال البسوا نعالكم فصلوا فيها ".وأخرج العقيلي وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله:{ خذوا زينتكم عند كل مسجد} قال: "صلوا في نعالكم "وفي معنى هذين الحديثين بضعة أحاديث أخرى ضعيفة يؤديها ما أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس أنه سئل:أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في نعيله ؟ قال:نعم{[1146]} وأخرج أحمد والشيخان وغير الترمذي من أصحاب السنن عن أبي هريرة أن سائلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم في الثوب الواحد فقال"أو لكلكم ثوبان ؟ "{[1147]} زاد البخاري في رواية:ثم سأل رجل عمر فقال:إذا وسع الله فأوسعوا:جمع رجل عليه ثيابه ، صلى رجل في إزار ورداء في إزار وقميص وفي إزار وقباء{[1148]} في سراويل ورداء ، في سراويل وقميص في سراول وقباء ، في تبان{[1149]} وقباء في تبان وقميص .قال وأحسبه قال:في تبان ورداء ، وذكروا في هذا السؤال إن سببه ما رواه عبد الرزاق أن أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود اختلفا فقال أبي:الصلاة في الثوب الواحد غير مكروهة وقال ابن مسعود:إنما كان ذلك وفي الثياب قلة فقام عمر على المنبر فقال القول ما قال أبي ولم يأل ابن مسعود أي لم يقصر وروي عن الحسن السبط عليه السلام والرضوان أنه إذا قام للصلاة لبس أجود ثيابه فسأل عن ذلك فقال إن الله جميل يحب الجمال فأتجمل لربي وهو يقول:{ خذوا زينتكم عند كل مسجد} .
والمأخوذ من جملة هذه الروايات وغيرها ما حققه وفصله عمر رضي الله تعالى عنه وهو أن الأمر يختلف باختلاف حال الإنسان في السعة والضيق كالنفقة قال تعالى:{ لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} ( الطلاق 7 ) فمن عنده ثوب واحد يستر جميع بدنه فليستر به جميع بدنه ويصل به ، فإن لم يستر إلا العورة كلها أو العورة المغلظة وهي السوأتان فليستر به ما يستره ، ومن وجد ثوبين معهما يكن نوعهما أو أكثر فليصل بهما ، والخلاصة أنه يطلب أن يكون في أوسط حال حسنة يقدر عليها ، وقد عد الفقهاء من أعذار ترك الجمعة والجماعة فقد الرجل للثياب اللائقة به بين أمثاله حتى العمامة للعالم .
هذا الأمر بالزينة عند كل مسجد لا المسجد الحرام وحده أصل من أصول الإصلاح الدينية والمدنية يعرف بعض قيمته مما روي في سبب نزول هذه الآيات ، وإنما يعرفها حق المعرفة من قرأ تواريخ الأمم والملل وعلم أن أكثر المتوحشين الذين يعيشون في الحرجات والغابات أفرادا وجماعات يأوون إلى الكهوف والمغارات ، والقبائل الكثيرة الوثنية ، في بعض جزائر البحار وجبال إفريقية ، كلهم يعيشون عراة الأجسام نساء ورجالا ، وإن الإسلام ما وصل إلى قوم منهم إلا وعلمهم لبس الثياب بإيجابه للستر وللزينة إيجابا شرعيا ، ولما أسرف بعض دعاة النصرانية الأوروبيين في الطعن في الإسلام لتنفير أهله منه وتحويلهم إلى ملتهم ، ولتحريض أوربة عليهم ، رد عليهم بعض المنصفين منهم ، فذكر في رده أن لانتشار الإسلام في إفريقية منة على أوروبة بنشره للمدنية في أهلها بحملهم على ترك العري وإيجابه لبس الثياب الذي كان سببا لرواج تجارة النسيج الأوروبية فيهم .
بل أقول:إن بعض الأمم الوثنية ذات الحضارة والعلوم والفنون كان يغلب فيها معيشة العري حتى إذا ما اهتدى بعضهم بالإسلام صاروا يلبسون ويتجملون .ثم صاروا يصنعون الثياب ، وقلدهم جيرانهم من الوثنيين بعض التقليد .هذه بلاد الهند على ارتقاء حضارة الوثنيين فيها قديما وحديثا لا يزال ألوف الألوف من نسائهم ورجالهم عراة أو أنصاف أو أرباع عراة فترى بعض رجالهم في معاهد تجارتهم وصناعتهم بين عار لا يستر السوءتين ويسمونهما"سبيلين "وهي الكلمة العربية التي يستعملها الفقهاء في باب نواقض الوضوء أو ساتر لنصفه الأسفل فقط ، وامرأة مكشوفة البطن والفخذين أو النصف الأعلى من الجسم كله أو بعضه ، وقد اعترف بعض علمائهم المنصفين بأن المسلمين هم الذين علموهم لبس الثياب والأكل في الأواني .ولا يزال أكثر فقرائهم يضعون طعامهم على ورق الشجر ويأكلون منه ، ولكنهم خير من كثير من سائر الوثنين سترا وزينة ، لأن المسلمين كانوا حكامهم ، وقد كانوا ولا يزالون من أرقى مسلمي الأرض علما وعملا وتأثيرا في وثنيي بلادهم .وأما المسلمون في بلاد الشرق التي يغلب عليها الجهل فهم أقرب إلى الوثنية منهم إلى الإسلام في اللباس وكثير من الأعمال الدينية ، ومنهم نساء مسلمي ( سيام ) اللاتي لا يرين في أنفسهم عورة سوى السوءتين كما تقدم آنفا فحيث يقوى الإسلام يكون الستر والزينة اللائقة بكرامة البشر ورقيهم .
فمن عرف مثل هذا عرف قيمة هذا الأصل الإصلاحي في الإسلام ، ولولا أن جعل هذا الدين المدني الأعلى أخذ الزينة من شرع الله أوجبه على عباده لما نقل أمما وشعوبا كثيرة من الوحشية الفاحشة ، إلى الحضارة الراقية ، وإنما يجهل هذا الفضل له من يجهل التاريخ وإن كان من أهله ، بل لا يبعد أن يوجد في متحذلقة المتفرجين منهم من يجلس في ملهى أو مقهى أو حانة متكئا مميلا طربوشه على رأسه يقول:ما معنى جعل أخذ زينة الناس من أمور الدين وهو من لوازم البشر لا يحتاجون فيه إلى وحي إلهي ولا شرع ديني ؟ وقد يقول مثل هذا في قوله تعالى:
{ وكُلُواْ وَاشْرَبُوا} وهذا الأمر المقيد بما عطف عليه من النهي إرشاد عال أيضا فيه صلاح للبشر في دينهم ومعاشهم ومعادهم ، لا يستغنون عنه في وقت من الأوقات ، ولا عصر من الأعصار ، وكل ما بلغوه من سعة العلم في الطب وغيره لم يغنهم عنه .بل هو يغني المهتدي به في أمره ونهيه عن معظم وصايا الطب لحفظ الصحة والمعنى خذوا زينتكم عند الساجد وأداء العبادات وكلوا من الطيبات ، واشربوا الماء وغيره من الأشربة النافعة المستلذات .
{ وَلاَ تُسْرِفُوا} فيها ولا تعتدوا بل الزموا الاعتدال{ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِين} أي إن ربكم الذين أنعم عليكم بهذه النعم لمنفعتكم لا يحب المسرفين في أمرهم ، بل يعاقبهم على الإسراف بقدر ما ينشأ عنه من المفاسد والمضار ، فالنهي راجع إلى الثلاثة كما يؤخذ من أكثر الروايات بل حذف المعمول يدل على العموم ، أي لا تسرفوا في هذه الأشياء ولا في غيرها ، ويؤيده تعليل النهي بأنه تعالى لا يحب جنس المسرفين أي لأنهم يخالفون سننه في فطرتهم وشريعته في هدايتهم بجنايتهم على أنفسهم في ضرر أبدانهم وضياع أموالهم ، وغير ذلك من مضار الإسراف الشخصية والمنزلية والقومية .
أخرج عبد بن حميد النسائي وابن ماجه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير مخيلة ولا سرف فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده "{[1150]}وفي معناه عن ابن عباس:كل ما شئت واشرب ما شئت والبس ما شئت إذا أخطأتك اثنتان:سرف أو مخيلة .والمخيلة ( بفتح الميم بوزن سفينة ) الخيلاء والإعجاب والكبر ، وعن عكرمة في قوله: "ولا تسرفوا "قال في الثياب والطعام والشراب .وعن وهب بن منبه قال:من السرف أن يكتسي الإنسان ويأكل ويشرب ما ليس عنده .وفي رواية عن ابن عباس في قوله:{ إنه لا يحب المسرفين} قال في الطعام والشراب .وفي أخرى قال أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة .ولم يذكر اللباس والمخيلة تظهر فيه ولا تظهر في نفس الأكل والشرب وإنما قد تظهر في أوانيهما كما سيأتي .
والأصل في الإسراف تجاوز الحد في كل شيء بحسبه .والحدود ( منها ) طبيعي كالجوع والشبع والظمأ والري فلو لم يأكل الإنسان إلا إذا أحس بالجوع ومتى شعر بالشبع كف وإن كان يستلذ الاستزادة ، ولو لم يشرب إلا إذا شعر بالظمأ واكتفى بما يزيله ريا فلم يزد عليه لاستلذاذ برد الشراب أو حلاوته ، لم يكن مسرفا في أكله وشربه ، وكان طعامه وشرابه نافعا له و( منها ) اقتصادي وهو أن تكون نفقة الثلاثة على نسبة معينة من دخل الإنسان لا تستغرق كسبه ، فمن نفينا عنه الإسراف الطبيعي في أكله وشربه قد يكون مسرفا في ماله إذا كان نوع طعامه وشرابه ولباسه مما لا يفي دخله بمثله و( منها ) عقلي أو علمي و( منها ) عرفي وشرعي ، ومن حدود الشرع في الطعام والشراب واللباس أنه حرم من الطعام الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ، ومن الشراب الخمر وهي كل مسكر ، كما حرم كل ضار منهما كالسموم ، ومن اللباس الحرير المصمت أي الخالص وكذا الغالب على الرجال دون النساء فهذه أشياء محرمة بأعيانها فلا تباح إلا لضرورة تقدر بقدرها .وحرم مما يلابسها الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة وهذا وما قبله ثابت في الأحاديث الصحيحة ، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم عده من السرف الذي يدخل في عموم النهي عن الإسراف في الثلاثة ، ونهى أيضا عن لباس الشهرة وعن تشبه المسلمين بغيرهم .
واعتبر علماء الشرع عرف الناس فيما يجب من نفقة الأقارب التي تختلف باختلاف الضيق والسعة ، وأخذا من قوله تعالى:{ لينفق ذو سعة من سعته} ( الطلاق 7 ) الآية فيجب على الزوج الغني لزوجته الغنية ما لا يجب على الفقير من غذاء ولباس ولكن درجات الغنى والفقر متفاوتة .لا يمكن ضبطها وتحديدها ، والمعتبر في كل طبقة من الناس عرف المعتدلين منهم الذي يدخل في طاقتهم ومن تجاوز طاقته مباراة لمن هم في الثروة مثله من المفسرين أو لمن هم أغنى منه وأقدر كان مسرفا ، وكم خربت هذه المباراة والمنافسة من بيوت كانت عامرة ، ولاسيما إذا اتبعت فيها أهواء النساء في التنافس في الحلي والحلل ، والمهور وتجهيز العرائس ، واحتفالات الأعراس والمآتم ، وما يتبعهما من الولائم والوضائم{[1151]} وإن من النساء من ترى من العار أن تلبس الغلالة أو الحلة في زيارتها لأمثالها مرتين بل لا بد لكل زيارة من حلة جديدة .وهذا سرف كبير ، وضرره على الأمة أكبر من ضرره على الأفراد ، ولاسيما في مثل هذه البلاد ، التي تأتي بكل أنواع الزينة من البلاد الأجنبية ، فتذهب ثروتها إلى من يستعين بها على استذلالهم وسلب استقلالهم .
ولا يعارض هذا ما ورد من الآثار وسيرة الخلفاء الراشدين وغيرهم من السلف في التقشف ، فإن هذا الهدي القرآني هو أصل الشرع وكل ما خالفه فله سبب يعرفه الواقف على جملة سيرتهم وما كانوا عليه من الفقر والضيق في أول الإسلام ، وما خافوا على الأمة من الفساد بالترف والسرف إلى تلك السعة التي لا حد لها بالاستيلاء على ملك كسرى وقيصر وغيرهما .
على أن الميل إلى التقشف والتقتير والغلو في ذلك تدينا معهود من طباع البشر كضده ، والاعتدال والقصد هو الذي خاطب به الشرع الناس كلهم ، وهو يختلف باختلاف اليسر والعسر والزمان والمكان .وما ورد من حديث عائشة عند ابن مردويه والبيهقي من أن الأكل مرتين في اليوم من الإسراف ضعيف ومعارض بالصحاح وحديث أنس عند ابن ماجه"إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت "{[1152]}ضعيف أيضا ولكن معناه صحيح وحكمة من جهة أخرى وذلك أن من اتبع نفسه هواها ، ولم يكبح جموحها بقوة الإرادة عن بعض شهواتها فإنها تقوده إلى الإسراف وإلى شرور أخرى .و لهذا شرع الله الصيام علينا من قبلنا .وقد مال بعض الصحابة إلى الغلو وشرعوا فيه بترك أكل اللحم وغشيان النساء حتى استأذن بعضهم النبي صلى الله عليه وسلم في الخصاء فأدبهم الله ورسوله بما ورد من الآيات والأحاديث في ذلك ، وقد فصلنا القول فيه تفصيلا عند تفسير قوله تعالى في سورة المائدة:{ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا} ( المائدة 87 ) إلخ الآيتين ، وبينا فيه أن ما عني بعض الصوفية بنقله من أخبار الزهد في الطعام كالغزالي في كتاب كسر الشهوتين فأكثره لا أصل له ومنه الموضوع والضعيف وأقله الصحيح ، وأن جملة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في الطعام انه كان يأكل ما وجد من خشن ومستلذ ، ليكون قدوة للمعسرين وهم أكثر أصحابه ، وللموسرين وهم الأقلون منهم في عهده ، وقد أيسروا من بعده على أنه ورد أن أحب الطعام إليه اللحم ، ولكنه لم يكن يهتم بالطعام ، وإنما كان يهتم بأمر الماء والشراب ، فلا يشرب إلا النظيف العذب ، ويحب البارد الحلو ، حتى كان يستعذب له الماء من مسافة يوم أو يومين ، وأما اللباس فكان في عامة أحواله يلبس ما كان يلبس قومه ، ولبس من خشن اللباس ومن أجود أنواعه ليكون قدوة للغني والفقير .
وجملة القول إن الطعام والشراب ضرورة بشرية حيوانية ، ولكن ضل فيها فريقان من البشر في كل أمة من الأمم:فريق البخلاء والغلاة في الدين الذين يتركون الأكل والشرب من الطيبات المستلذة النافعة بخلا وشحا ، أو يحرمونها على أنفسهم تحريما دائما أو في أيام أو أشهر مخصوصة تقربا إلى الله تعالى بتعذيب النفس وإضعاف الجسم ، وفريق المترفين المسرفين في اللذات البدنية الذين جعلوا جل همهم من حياتهم التمتع باللذات ، فهم يأكلون ويتمتعون كما تتمتع الأنعام بل هم أضل منها في تمتعهم ، لأنها تقف عند حاجة فطرتها دونهم ، فلا تعدوا فيها داعية غريزتها التي تحفظ بها حياتها الفردية والنوعية ، وأما المترفون من الناس فإنهم يسرفون في ذلك فيأكلون قبل تحقق الجوع ويشربون على غير ظمأ ، ويتجاوزون قدر الحاجة في الأكل والشرب كما يتجاوزون في غيرها ، ويستعينون على ذلك بالتوابل والمحرضات للشهوة فيصابون من جراء ذلك بتمدد المعدة ، وسوء الهضم وفساد الأمعاء من التخمة ، وكثرة الفضلات في الجسم التي تحدث تصلب الشرايين المعجل بالهرم ، وغير ذلك من الأمراض كما هو شأنهم في شهوة داعية النسل التي بينا ضرر الانهماك والإسراف فيها قريبا في الكلام على مسألة ستر السوءتين حتى فيما بين الزوجين ، وفي مواضع أخرى ، لأجل هذا قيد الأمر في الأكل والشرب من الطيبات بالنهي عن الإسراف كما قيده في زينة اللباس .
هذا وإن الاقتصاد في المعيشة قد وضعت له قواعد وأصول ، فرعت منها مسائل وفروع ، فيحسن الاستنارة لها وبعلم تدبير المنزل على اجتناب ما حظره الشرع من الإسراف والتبذير والبخل والتقتير ، واتباع ما حث عليه ورغب فيه من القصد والاعتدال في النفقات والصدقات ، وقد ذكرنا بعض الآيات والأحاديث في ذلك في تفسير قوله تعالى أول سورة النساء{ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما} ( النشاء 4 ) .