/م29
يدل على هذا تعليلها على طريق الاستئناف البياني بقوله تعالى:
{ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُون} عاد هنا إلى الكلام عن المشركين بضمير الغائبين بعد انتهاء ما أمر به الرسول من خطاب المحتجين منهم بما يبطل حجتهم التي حكاها عنهم ومعنى اتخاذهم الشياطين أولياء أنهم أطاعوهم في كل ما يزينونه لهم من الفواحش والمنكرات كأنهم ولوهم أمورهم من دون الله الذي يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي والعدوان ، ويحسبون أنهم مهتدون فيما تلقنهم الشياطين من الشبهات كجعل التوجه إلى غير الله والتوسل به إليه في الدعاء وغيره مما يقربهم إليه تعالى زلفى ، وجعل الرب تعالى كالملوك الجاهلين الظالمين ، لا يقبل عبادة عبده المذنب إلا بواسطة بعض المقربين عنده ، كالملك الجاهل مع وزرائه وحجابه وأعوانه ، وغير ذلك مما ذكر آنفا من شبهتهم على طوافهم عراة ، وما تقدم في سورة الأنعام من تحريم ما حرموا من الحرث والأنعام .
وأكثر من ضل من البشر في الاعتقاديات والعمليات يحسبون أنهم مهتدون ، وأقل الكفار الجاحدون للحق كبرا وعنادا كأعداء الرسل في عصورهم ، وحاسديهم على ما آتاهم الله من فضله فكرمهم به عليهم ، كما حسد إبليس آدم واستكبر عليه ، ومنهم فرعون والملأ من أشراف قومه الذين قال تعالى فيهم{ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} ( النمل 14 ) ومنهم كبراء طواغيت قريش كأبي جهل والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث والأخنس بن شريق الذين قال تعالى فيهم{ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} ( الأنعام 33 ) وأما سائر الناس فضالون بالتقليد واتباع الشبهات الشيطانية ؟ أو بالنظريات والآراء الباطلة ؟ وهم الذين قال تعالى فيهم{ قل هل أنبئنكم بالأخسرين أعمالا ؟ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} ( الكهف 103- 104 ) ولو كان التقليد عذرا مقبولا لكان أكثر كفار الأرض في جميع الأزمنة والأمكنة معذورين ناجين كالمؤمنين .
ألم تر أن التقلد قد أضل الألوف التي لا تحصى من المسلمين الذين صدق عليهم الحديث الصحيح"لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع "{[1140]} فتركوا هداية الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح ، واتبعوا البدع المستحدثة فإذا دعوا إلى الله ورسوله:قالوا قال الشيخ فلان وفعل الولي الصالح فلان ، وهؤلاء أعلم وأهدى منا بالسنة والقرآن .وإنما أمرهم الله أن يتبعوا ما أنزله إليهم ونهاهم أن يتبعوا من دونه أولياء كما تقدم في صدر هذه السورة وما أضيع البرهان عند المقلد* .
وأما أهل النظر فمنهم من بلغته دعوة الرسول على وجهها أو على غير وجهها ومنهم من لم تبلغه ، وفي كل منهم من يبحث عن الحق ليتبعه ومن لم يبحث .
ذهب بعض المتكلمين إلى أن من بذل جهده في النظر والبحث والاستدلال على الحق فاتبع ما ظهر له أنه الحق بحسب ما وصلت إليه طاقته وكان مخالفا في شيء منه لما جاءت به الرسل لا يدخل في مدلول هذه الآية وأمثالها بل يكون معذورا عند الله تعالى لقوله:{ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} ( البقرة 286 ) وقد اشترطوا في حجية بلوغ الدعوة كونها على وجه من الصحة والحجة يحرك إلى النظر فيها وإلا فليس من شأن أحد من البشر أن يبحث عن كل ما يبلغه من أمر الأديان ولاسيما إذا بلغه بصورة مشوهة تدعو إلى الإعراض عنها ، واتقاء إضاعة الوقت في النظر فيها ، ويزعم كثير من المسلمين أن جميع أهل هذا العصر قد بلغتهم دعوة الإسلام على وجهها وما أجهلهم بحال العصر وأهله وبالدعوة وأدلتها على أنهم تركوها منذ قرون ولولا ذلك لما جهلوها .
قال السيد الآلوسي في تفسير{ ويحسبون أنهم مهتدون} عطف على ما قبله داخل معه في حيز التعليل أو التأكيد ولعل الكلام من قبيل بنو فلان قتلوا فلانا والأول في مقابلة من هداه الله تعالى شامل للمعاند والمخطئ ، والثاني مختص بالثاني ، وهو صادق على المقصر في النظر والباذل غاية الوسع فيه .واختلف في توجه الذم على الأخير وخلوده في النار ، ومذهب البعض أنه معذور ، ولم يفرقوا بين من لا عقل له أصلا ومن له عقل لم يدرك به الحق بعد أن لم يدع في القوس منزعا في طلبه ، فحيث يعذر الأول بعدم قيام الحجة عليه يعذر الثاني لذلك .ولا يرون مجرد المالكية وإطلاق التصرف حجة .ولله الحجة البالغة ، والتزام أن كل كافر معاند بعد البعثة وظهور أمر الحق كنا على علم وأنه ليس في مشارق الأرض ومغاربها اليوم كافر مستدل مما لا يقدم عليه إلا مسلم معاند ، أو مستدل بما هو أو هي من بيت العنكبوت ، وإنه لأوهن البيوت ، وادعى بعضهم أن المراد من المعطوف عليه المعاند ومن المعطوف المخطئ والظاهر ما قلنا .اه .
هذا وإن المعذور في الخطأ لا يكون عند الله كالمصيب وإن الذي يتحرى الحق المرضي عند الله تعالى المنجي في الآخرة لا بد أن يعرف بإخلاصه في النظر واجتهاده في الطلب كثيرا من الحق والخير ، ومعرفته حجة عليه ، ومن كان هذا شأنه كان أجدر الناس بقبول دعوة الرسل إذ بلغته على وجهها ، لأنه أحق بها وأهلها ، فإن لم يقبلها كان في نظره على هوى .ويتفاوت هؤلاء المجتهدون المخطئون بتفاوت حظوظهم من معرفة الحق واتباعه ، ومعرفة الخير والعمل به واجتناب ضده إذ بذلك تتزكى الأنفس والمدار في الآخرة على تزكيتها .وقد بينا هذا في موضع آخر من التفسير بما هو أوسع مما هنا .والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب .