{فَرِيقًا هَدَى} في ما أعطاه الله من وسائل الهداية من عقلٍ ووحيٍ وإرادةٍ ،وحسٍّ يتصل بالعالم من خلاله ،ليستمدَّ من ذلك المواد الخام للمعرفة ...فاستفاد منها في تعميق ايمانه بالله ،وهدايته لدينه ؛وتلك هي الأسباب الطبيعية التي جعلها الله سبحانه أساساً لهداية الإنسان على طريق الاختيار ،{وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضّلالَةُ} أي ثبت عليهم هذا الخط وتأكّد في ما اختاروه لأنفسهم من وسائل تبعدهم عن أجواء الهدى ،وتقربهم من أجواء الضلال .فان الإنسان إذا انطلق في هذا الاتجاه كانت الضلالة أمراً طبيعياً في حياته .{إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ} فساروا معهم في ما شقوه لهم من طريق ،وانجذبوا إليهم في ما زينوه لهم من أعمال ،وانتصروا بهم في ما واجهوه من مواقف ...وخرجوا من ولاية الله ،وتحركوا بعيداً عن طاعته ومنهجه في الحياة ،فضلّوا وضاعوا في متاهات الطريق .{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} ،لأنهم لم يتعرفوا الخط الفاصل بين الهدى والضلال ،ليحدّدوا لأنفسهم الهوية الحقيقيّة للمسار وللمصير .
ورد في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر محمد الباقر( ع ) في قوله:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ* فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} قال: «خلقهم حين خلقهم مؤمناً وكافراً وشقيّاً وسعيداً ،وكذلك يعودون يوم القيامة مهتدياً وضالاًّ » .
قال علي بن إبراهيم: «قال رسول الله( ص ): الشقي من شقِيَ في بطن أمّه والسعيد من سعد في بطن أمّه » .
وقد ذكروا أن أبا الجارود مطعونٌ فيه ،ولكنهم قبلوا ما رواه عن أبي جعفر حال استقامته قبل انحرافه عنه إلى الزيدية .
ونلاحظ أن هذا اللّون من الروايات مما لا يمكن الأخذ بظاهره ،لأنه يوحي بأن إيمان الإنسان وكفره أو سعادته وشقاوته ناشئان من طبيعة الخلق ،مما يجعل النهاية كالبداية ،باعتبار توقف مختلف هذه الموارد على طبيعة عنصر الخلق ،فيكون الفعل مظهراً لما في الذات ،لا منطلقاً من الاختيار الناتج عن التربية ،ممّا يجعل مسألة التعليم والتربية وحركة الرسالات في الهداية والإنذار والتبشير لا معنى لها ،وهذا ممّا لا يتفق مع العقل في حركته الفكرية وفي بناء العقلاء ،في أمورهم الجارية على واقعية الإرادة الإنسانية والتوجيه العام ،في بناء الشخصية في عناصرها الإيجابية والسلبية .
لذلك لا بد من توجيه أمثال هذه الرواية ،على تقدير صدورها ،بأن المراد منها الحديث عن التنوّع الإنساني في النتائج العملية لحركة الإنسان في مواجهة الرسالات ،فهناك الإنسان الذي هداه الله بهدايته من خلال أخذه بأسبابها التي وضعها بين يديه وزاده هدى بعد أن اختار ذلك ،وهناك الإنسان الذي رفض السير في خط الهداية ،واندفع في متاهات الضلال فثبتت عليه الضلالة من خلال توفر أسبابها الإرادية الطبيعية ،مما يجعل التعبير جارياً على مستوى النتائج لا على مستوى المقدمات ،بمعنى أنه ليس المراد منه أن الله خلقه مهديّاً ،أو فُرضت عليه الضلالة بالتكوين ،بل إن المراد منه ،على الظاهر السياقي ،هو أن الناس فريقان ،فهناك الذي هداه الله ،على النسق الذي تنتسب فيه الافعال إليه ،فلا يمنع أن يكون ذلك بأسبابه الاختيارية ،ولعل قوله تعالى:{إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} يوحي بذلك ،باعتبار دلالته على ارتباط الضلالة بإرادتهم ،أما قوله تعالى:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} ،فالظّاهر أنّ المراد منها الحديث عن البعث الذي تلتقي فيه النهاية بالبداية على أسلوب قوله تعالى:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [ الأنعام:94] ،وليس المراد منهاوالله العالممصيرهم في مسألة الإيجاد والبعث ،فلا بد لهم من التفكير بالموقف عند العودة إليه للحساب ،ليستعدوا له بإقامة وجوههم عند كل مسجد والابتهال إليه بالدعاء بإخلاص الدين له ،والله العالم .