{زِينَتَكُمْ}: ما يُتَزيَّن به من اللباس والطِّيب ووسائل التجمُّل ،للظهور بالمنظر الجميل الطيّب الذي يمثّل لوناً من ألوان الشكل الحضاري للإنسان المسلم .
{وَلاَ تُسْرِفُواْ}: لا تتجاوزوا الحدّ في الإنفاق .
مناسبة النزول
جاء في أسباب النزولللواحديبإسناده عن ابن عباس «قال: كان ناس من الأعراب يطوفون بالبيت عراةً ،حتى أن كانت المرأة لتطوف بالبيت وهي عريانة ،فتعلّق على سفلاها سيوراً مثل هذه السيور التي تكون على وجوه الحمر من الذباب وهي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كلّه وما بدا منه فلا أحلّه
فأنزل الله تعالى على نبيه( ص ):{يا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} فأمروا بلبس الثياب » .
مع العلامة الطباطبائي حول مناسبة النزول
وقد علّق العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان على هذه الرواية وأمثالها قال: «لكنك قد عرفت أن الآيات المصدّرة بقوله:{يَا بَنِي آدَمَ} أحكام وشرائع عامة لجميع بني آدم من غير أن يختصَّ بأمّة دون أمّة ،فهذه الاحاد من الأخبار لا تزيد على اجتهاد من المنقول عنهم لا حجية فيها .وأعدل الروايات في هذا المعنى الروايتان الآتيتان » .
فقد جاء في الدر المنثور: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله:{خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال: «كان رجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة ،والزينة اللباس ،وهو ما يواري السوأة وما سوى ذلك من جيّد البزّ والمتاع » .
وفيه: «أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يحرّمون أشياء أحلّها الله من الثياب وغيرها ،وهو قول الله:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً} [ يونس:59] ،وهو هذا ،فأنزل الله:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني شارك المسلمون الكفار في الطيبات في الحياة الدنيا ،فأكلوا من طيبات طعامها ولبسوا من جياد ثيابها ،ونكحوا من صالح نسائها ،ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا ،وليس للمشركين فيها شيء » .
من ثم يعلّق صاحب الميزان بقوله: «أقول: والروايتان ،كما ترى ،ظاهرتان في التطبيق دون سبب النزول والمعوّل على ذلك » .
ونحن ،في الوقت الذي نتفق فيه مع العلاّمة الطباطبائي في تحفّظاته على رواية سبب النزول ،وفي موافقته على الروايتين المذكورتين أعلاه واعتبارهما من روايات التطبيق على الآية ،لا نتفق معه في تفسير ذلك بأن الآية المصدّرة بقوله:{يَا بَني آدَمَ} لا تختص بأمة دون أمّة ،لأن ذلك لا يتنافى مع انطلاق الآية الشاملة من مناسبةٍ خاصة لتكون المنطلق للخطاب الشامل ،كما هو الحال في كل روايات أسباب النزول ،ولكننا في الوقت نفسه ،لا نجد أيّة مناسبة بين القصة المذكورة وسياق الآية الواردة في الحديث عن البرنامج العملي للإنسان في المظهر الاجتماعي ،في حياتهم في المساجد ،فيأخذون بزينتهم التي تمثل المظهر اللائق بهم من حيث التمييز بين ما يكون زينة وما لا يكون كذلك ،من دون أن يظهر منها الحديث عن الثوب في مقابل العري ،فلا علاقة لها ،حسب ظاهر السياق ،بالحادثة المذكورة ،لا سيما إذا كانت الآية لا تقتصر على ذلك بل تمتد إلى نظام الأكل والشرب ،لتتحدث بعد ذلك الآية التالية لها عن القاعدة العامة التي أراد الله للإنسان المؤمن أن يتحرك فيها في حياته في الأخذ بزينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ،ليجعلها الله خالصة له يوم القيامة ،ممّا يجعل الأمر متنوعاً في عناصره وليس وارداً في أمثال حالةٍ معينةٍ في خط الروايات الواردة في سبب النزول ،وهذا هو الذي يؤيّد الرأي القائل إن الكثير من مواردها جازٍ على سبيل الاجتهاد لا الرواية .
المنهج الإلهي في توجيه حياة الإنسان
هذا هو النداء الثالث الذي يريد الله أن يوجه به الإنسان إلى منهجه ليمارسمن خلالهحياته ،في ما يحتاجه جسده من أكل وشرب ولباسٍ وزينةٍ ...ليقف من ذلك كله في نقطة التوازن ،فلا يتعقد من حاجات الحياة الطبيعية ،فيعتبرها قذراً وخباثةً وحراماً ...من موقع الفكرة التي ترفض ماديات الحياة جملةً وتفصيلاً ،وتدعو إلى السموّ نحو روحياتها ...ولا ينجذب إلى هذه الحاجات فيعتبرها قيمةً وطموحاً وهدفاً ،بل يقف بين هذا وذاك ،فيراها حاجةً طبيعية يحفظ بها جسده ،ويصون بها حياته ،فيمارسها في نطاق الحدود التي فرضها الله ورسمها لعباده ،فيميز بين ما يفسد الحياة من حوله فيتركه ،وبين ما يصلحها أو لا يسيء إليها فيفعله ،وذلك هو خط هذه الآيات .
الله جميل يحب الجمال
{يَا بَني آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} إنّ الله جميل يحبّ الجمال والتجمُّل ،ويبغض البؤس والتباؤس ،وإن الله إذا أنعم على عبد بنعمةٍ أحب أن يرى أثر نعمته عنده .هكذا جاء في الكلمات المأثورة عن بعض أئمة أهل البيت( ع ) ،وروي عن «خيثمة بن أبي خيثمة قال: كان الحسن بن علي( ع ) إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه ،فقيل له: يا بن رسول الله لم تلبس أجود ثيابك ؟فقال: إن الله تعالى جميل يحبّ الجمال فأتجمَّل لربي ،وهو يقول:{خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ،فأحب أن ألبس أجود ثيابي » استيحاءً من هذه الآية التي توجه الناس إلى أن يأخذوا زينتهم من اللباس والطيب ووسائل التجمُّل ...في كل مسجد ،وهو المكان الذي يجتمع فيه الناس للصلاة ،حيث يمثل الاجتماع فيه مظهراً من مظاهر حياة المسلمين الاجتماعية ؛لذا أراد الله لهم أن يخرجوا إليه بزينتهم ،وبشكل جميل طيب يعكس المظهر الحضاري للإنسان المسلم مقابل مظاهر التخلف التي كانت سائدة لدى المجتمع الجاهلي من العري والقذارة والرائحة غير الطيّبة ،وما إلى ذلك مما يريد الإسلام إبعاد الإنسان عنه ،لا سيما داخل الحياة الاجتماعية التي لا يكون مظهره شأناً شخصياً له ،بل شأناً عاماً يمس ذوق الآخرين في ما يحبونه ويألفونه وفي ما لا يحبونه ولا يألفونه ،فيكون في ذلك إحسانٌ لهم في مجالٍ ،،أو إساءةٌ لهم في مجال آخر .وفي ضوء ذلك ،نستطيع اعتبار أن المسألة تتعدى الاجتماع في المسجد إلى كل مكانٍ يجتمع فيه الناس ،على أساس أن الخصوصية ليست للمكان ،بل هي للأجواء التي تهيمن على المكان .
وقد وردت الروايات المتعددة التي تتحدث عن تطبيق مضمون الآية على العيدين والجمعة ويوم عرفة ،كما وردت في الحديث عن التمشط والاغتسال والتطيب .
وقد امتدّ الاستيحاء للاية في معنى الجمال والتجمّل إلى ما يشمل النظافة والطيب وجمال البناء ونحو ذلك ،فقد جاء عن الإمام جعفر الصادق( ع ) قال: «إن الله يحب الجمال والتجمل ،ويبغض البؤس والتباؤس ،فإن الله إذا أنعم على عبده بنعمةٍ أحبّ أن يرى عليه أثرها ،قال: قيل: كيف ذلك ؟قال: ينظّف ثوبه ،ويطيّب ريحه ،ويجصص داره ،ويكنس أفنيته ،حتى أن السراج قبل مغيب الشمس ينفي الفقر ويزيد في الرزق » .
«وفي حديث آخر عنه قال: أبصر رسول الله( ص ) رجلاً شعثاً شعر رأسه وسخة ثيابه ،سيّئةٌ حاله ،فقال رسول الله( ص ): من الدين المتعة » .
وهكذا نفهم من هذه الأحاديث أن مسألة التزيّن هي مسألة تتصل بالجانب الجمالي للمظهر الإنساني في إظهار نفسه وبيته بالطريقة التي تمثّل الجمال في الثياب والطيب والشكل الهندسي للبيت ،وللشارع ،خلافاً للفكرة التي توحي بأن التدين يفرض على الإنسان الخروج بالخلق من الثياب والفوضى في الشكل والهيئة كمظهر من مظاهر الزهد الخارجي ،فإن الزهد ليس في الشكل وإنما في المضمون النفسي الذي يرفض الارتباط بالدنيا بالمستوى الذي تضغط فيه على مبادئه ومواقفه في الحياة لتقدم التنازل من دينه لمصلحة دنياه .
التوازن في الإسلام قانون الحياة
{وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} ..فالله أراد للإنسان أن يأكل لأن الأكل حاجة طبيعية للجسد ليستمر في قوّته التي تمده بالحياة ،وأراد له أن يشرب للسبب نفسه .وإذا كان الأكل والشرب مطلوبين من موقع الحاجة ،فمن الطبيعي أن تتقدر الحاجة بالمقدار الذي يحقق الاكتفاء للجسد ،لأن الزيادة عنه تثقل الجسد بما لا يحتاجه فيسيء إلى توازنه وقوّته .ولهذا جاء النهي عن الإسراف في الأكل والشرب مراعاةً لجانب السلامة في حياة الإنسان ،وللحصول على رضا الله ومحبّته ،لأن الله لا يحب للإنسان أن يتجاوز الحدود الطبيعية لحاجاته في الحياة ،بل يريد له أن يكون متوازناً في كل شيء ،مما يجعل من الالتزام بذلك عملاً دينياً يقربه إلى الله ،والعكس صحيح ،لأن الإنسان ملك الله ،فلا يحب أن يتصرف أحد في ملكه بما يسيء إليه ،سواءٌ في ذلك ما يتعلق بنفسه أو بالآخرين .وهنا يكمن الفرق بين المبادىء الوضعية وبين التشريع الديني ،فإن تلك المبادىء تترك للإنسان الحرية في ممارسة حياته الخاصة بقطع النظر عن نوعيّة الممارسة ،بينما يؤكّد التشريع الديني على ضرورة تقييد هذه الحرية ،لمصلحة حياة الإنسان وحمايته من نفسه .
القصد أمرٌ يحبه الله
{إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وهذه قاعدٌة عامةٌ تتجاوز مورد الآية إلى غيرها من التصرفات المالية والعملية التي تعرّض الإنسان للإسراف ،وتضعه وجهاً لوجه أمام التزامه بالاعتدال من أجل الحصول على رضا الله ،بينما يكون الإسراف سبباً في فقدانه لمحبة الله سبحانه .وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق( ع ) أنه قال: «ليس في ما أصلح البدن إسراف ،إنما الإسراف في ما أفسد المال وأضرّ بالبدن » .
وفي حديثٍ آخرمما رواه سليمان بن صالحقال: «قلت لأبي عبد الله( ع ): أدنى ما نهي عن حد الإسراف ؟فقال: إبذالك ثوب صونك وإهراقك فضل إنائك ،وأكلك التمر ،ورميك النوى ههنا وههنا » .
وروي عنه أنه قال: «إن القصد أمر يحبه الله وإن السرف أمرٌ يبغضه الله ،حتى طرحك النواة ،فإنها تصلح للشيء ،وحتى صبّك فضل شرابك .
ونستوحي من ذلك توجيه الفرد المسلم والمجتمع المسلم إلى أن لا يطرح شيئاً مما يمكن الانتفاع به ،بل يعمل على الاحتفاظ به من أجل الانتفاع به على المستوى الفردي والاجتماعي ،فليس للإنسان أن يهرق المال من دون حاجة ،أو يطرح النواة من دون منفعة ،فلا بد له من الاحتفاظ بكل الأشياء النافعة في ذاتها من أجل تحويلها إلى طاقةٍ مفيدة في إنتاج عناصرها الكامنة فيها لمصلحة الحاجات العامة والخاصة .
وقد روي ،تعليقاً على الآية{وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} «أن الرشيد كان له طبيب نصرانيٌ حاذقٌ ،فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء ،والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان !فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه ،وهو قوله:{وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} وجمع نبينا( ص ) الطب في قوله: المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء ،وأعطِ كل بدن ما عوّدته ،فقال الطبيب: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبّاً »[