{حَرَّمَ}: التحريم: هو المنع من الفعل بإقامة الدليل على وجوب تجنّبه ؛وضدّه التحليل ،وهو الإطلاق في الفعل بالبيان على جواز تناوله .
وأصل التحريم المنع ،من قولهم: حرَّم فلانٌ الرزق حرماناً فهو محروم ،وأحرم بالحجّ وحرمة الرجل زوجته ،والحرمات الجنايات ،والمحرم القرابة التي لا يحل تزوجها ،وحريم الدار ما كان من حقوقها .
{زِينَةَ اللَّهِ}: ما يستمتع به الناس من ألوان الزينة التي لا تسيء إلى طبيعة الإنسان .
{خَالِصَةً}: قال الراغب في المفردات: الخالص كالصافي إلا أن الخالص هو ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه ،والصافي قد يقال لما لا شوب فيه ...ويقال: هذا خالص وخالصة نحو داهية وراوية .
الزهد في كلمتين
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} في ما يستمتع به الناس من ألوان الزينة التي لا تسيء إلى طبيعة الاعتدال لدى الإنسان ...{وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} في ما يستلّذونه ويشتهونه مما يؤكل ويُشرب .وينطلق التساؤل هنا في معرض الإنكار على هؤلاء الذين أرادوا للإنسان أن يترك زينة الحياة وطيّباتها تحت تأثير الفكرة التي ترفض الإقبال على الماديات من الأطعمة والأشربة وغيرها ،على أساس الفهم الخاطىء لمعنى الزهد دينياً ،فهو الذي يتمثل لديهم في السلوك السلبي للإنسان ضد الطيّبات من الرزق ،والتزين في اللباس ،وذلك لأن الزهد لا ينطلق من هذا المعنى ،بل من الحالة النفسية التي تحسّ بالاكتفاء ،وتشعر بالحرية أمام كل حالات الإلحاح الذاتي على ممارسة الإنسان لمطامعه وشهواته ،كما ورد في كلمة الإمام علي( ع ): الزهد كله بين كلمتين من القرآن قال الله سبحانه:{لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتاكُمْ} [ الحديد:23] .
وقد جاء بإسناده عن ابن القداح الكافي ،قال: «كان أبو عبد الله ،جعفر الصادق( ع ) ،متكئاً عليّأو قال على أبيفلقيه عبّاد بن كثير البصري وعليه ثياب مرويّة حسان ،فقال: يا أبا عبد الله ،إنك من أهل بيت النبوّة وكان أبوك وكان ،فما هذه الثياب المرويّة عليك ؟فلو لبست دون هذه الثياب .فقال له أبو عبد الله( ع ): ويلك يا عبّاد ،من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ،إن الله عز وجل إذا أنعم على عبده نعمة أحب أن يراها عليه » .
وجاء فيه عن العباس بن هلال الشامي مولى أبي الحسن «علي الرضا( ع ) » قال: «قلت له: جعلت فداك ما أعجب إلى الناس من يأكل الجشب ويلبس الخشن ويتخشع ؟فقال: أما علمت أن يوسف( ع ) نبيّ ابن نبيّ كان يلبس أقبية الديباج مزرورةً بالذهب ويجلس في مجالس آل فرعون يحكم ،فلم يحتج الناس إلى لباسه وإنما احتاجوا إلى قسطه ،وإنما يحتاج من الإمام في أن إذا قال صدق وإذا وعد أنجز وإذا حكم عدل ،إن الله لا يحرم طعاماً ولا شراباً من حلال ،وإنما حرّم الحرام قل أو كثر ،وقد قال الله عز وجل:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} » .
القيمة للروح لا للشكل
وهكذا نفهم من أجواء الآية التي استوحاها الأئمة من أهل البيت( ع ) أن الإسلام لا يقتصر في نظرته إلى الحياة على الجانب العبادي من سلوك الإنسان فيها ،بل يمتدّ إلى الجانب الحسّي الذي يتمثل في الزينة الظاهرة ،مما يلبسه ويتجمل فيه ويظهر به للناس من الثياب الجيّدة ،وفي الأكل الطيّب والشراب الطيب ،بحيث يمارس الحياة بشكل طبيعي في حاجاته بعيداً عن الرفض العملي ،لأن القيمة ليست في الممارسة ،بل في الروح التي يختزنها الإنسان المؤمن في نظرته إلى الدنيا ،بحيث لا يسقط روحياً أمام حاجاته الضاغطة عليه لمصلحة مواقعه وامتيازاته فيها .
وفي هذا الجو ،ينطلق المسؤولون في مسؤولياتهم العامة ،من دون خداع الناس بالجانب المظهري الذي يتمظهرون فيه بالزهد الشكلي ليجتذبوا الناس إليهم من خلال الشفقة التي يحصلون عليها من خلال ذلك ،لأن التوجيه الاسلامي يربط الناس بالمسؤولين من خلال صدقهم في الكلمة وفي الوعد والعهد وعدلهم في الحكم وإخلاصهم لله في حركة المسؤولية ،كما جاء في حديث الإمام الرضا( ع ) .وربما كانت إيحاءات هذه الآية في الإنكار على من حرّم زينه الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ،أنها تنفتح على المزيد من التخطيط للشكل الحضاري والتطور الإنساني في الحياة المدنية ،التي تضع في حساباتها تطوير الواقع المدني للإنسان والحاجات الحيوية الحسية له من دون أية عقدة دينية في هذا الجانب ، فيمكن للقائمين على شؤون الإسلام والمسلمين أن يعملوا في خطة تصاعديةٍ للسير بالواقع الإسلامي في حركة التطور في جميع الأوضاع المتحركة في الحاجات العامة .
المؤمن أولى بنعم الله
{قُلْ هِي لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وأطاعوا الله ،وحصلوا على رضاه{خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} لا يشاركهم فيها غيرهم من الكافرين ،كما شاركوهم بها في الدنيا .وربما كان المراد أنها للمؤمنين في حياتهم الدنيا ،قد منّ الله عليهم بها ليستمتعوا ،فليس لهم أن يمنعوا أنفسهم منها تحت تأثير أية فكرة توحي لهم بالتحريم ،فإن الله لم يبحها للكافرين ليحرّمها على المؤمنين ،بل هم أحق بها لأنهم أولياء الله وأحباؤه ،أمَّا في يوم القيامة فهي خالصة لهم ،لأن نعيم الآخرة هو نعيم الثواب الذي لا يستحقّه إلا المؤمنون ،وبهذا تكون كلمة{فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} من متعلقات الفعل المقدر بعد كلمة «هي » ،أي كائنة في الحياة الدنيا ،لا من متعلقات كلمة{ءَامَنُواْ}َ ؛والله العالم .
{كَذَلِكَ نُفصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ليعرفهم الخط العملي في الحياة ،حتى لا تختلط عليهم الأمور ،وتشتبه لديهم المفاهيم ،في ما يقبلونه ويرفضونه ،على أساس الفلسفات المنحرفة التي تأتيهم من هنا وهناك .