ولقد كان من العرب من حرم زينة الله وأوجب العري عند الطواف فاستنكر الله تعالى فعلهم ، وقال:{ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} .
أمر الله تعالى نبيه الكريم بأن يستنكر ما كان من الذين حرموا زينة اللباس افتراء على الله تعالى كما كان يفعل المشركون ، أو تزهدوا كما فعل جهلة المتعبدين فقال:{ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} الاستفهام إنكاري لنفي الوقوع ؛ لأنه وقع من المشركين ، وإنكار الواقع توبيخ لهم على ما وقع .
وقد وقع في هذا بعض العرب ، فطافوا عراة في المسجد الحرام الحرام ، كما ذكرنا ، وقد كان الأمر في الآية السابقة يأخذ الزينة في المسجد الحرام وعند كل مسجد ، وفي هذه الآية يستنكر تحريم الزينة في المساجد وغيرها ، وهي آمرة باتخاذ الزينة أمر إباحة ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتجمل في ثيابه ، وإن كان يرقعها أحيانا ( 1 ){[1097]} ، وكان يحث أصحابه على أن يتخذوا أحسن الثياب حتى إذا أوشكت على البلى تصدقوا بها ، وكان السلف من الصحابة والتابعين يعنون بثيابهم ، وإذا كان قد روى عن عمر – رضي الله عنه – أنه في مدة خلافته كان يلبس أحيانا ثوبا تعد رقعاته ، فما ذلك لتحريم التجمل على نفسه ، بل لمعنى في الحكم الآمر نفسه ، فهو يقول:لا أكون أمير المؤمنين إن لم أعش كأضعف المؤمنين .
وكان علي بن أبي طالب إمام الهدى يعني بثيابه ويتجمل بها ، فلما ولى أمر المؤمنين كانت أول كلمة قالها:سأرفع من ثوبي ما كنت أجر .
وقوله تعالى:{ التي أخرج لعباده} ، أي أنه – سبحانه وتعالى – مكن عباده من إخراجها ونسجها ، وأنشأ لهم مصدر وجودها ، فهو – سبحانه وتعالى هو الذي أنزل المطر بالماء العذب من السماء فكان النبات ، وعاش بالنبات الحيوان ، وكان من النبات القطن والكتان ، وكان من الحيوان الصوف والبور والشعر ، وكان من كل ذلك اللباس والرياش ، وما خلق ذلك عبثا ، بل كان وفق ما سنه – سبحانه وتعالى – ولا يليق بمؤمن أن يرد إنعام الله ، ولقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:( إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ) ( 2 ){[1098]} . وكما استنكر القرآن الكريم الذي أنزله رب العالمين تحريم الزينة استنكر أيضا تحريم الطيبات ، والطيبات هي الأطعمة التي تستلذ وتستطاب ما دامت لا تضر الأجسام ، وهي ضد الخبائث كما قال تعالى:{. . . . . . . . ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث . . . . . . . . ( 157 )} فهي الطعام الطيب الهنيء المريء الذي تقبل عليه النفس وتهنأ به وهو لا يعقبه ضرر ، وسمك شخي ، وغير ذلك مما يستطيبه الإنسان .
ولا يتم الطعام الطيب ويكمل إلا إذا كان طيبا في طريق كسبه ، فلا يكون قد أخذ من حرام لقوله عليه الصلاة والسلام:( من نبت لحمه من حرام فالنار أولى به ) ( 1 ){[1099]} .
فالطيب من الطعام له خاصتان أولاهما – أن يكون مستطابا في ذاته مرئيا في عاقبته ، والثانية أن يكون من كسب حلال .
وإنه من المقررات العلمية أن يكون من غير إسراف كما ذكر الله تعالى في الآية السابقة ، و يجب أن يعالج العاقل نفسه ، حتى لا تندفع إلى الإسراف ؛ ولذلك يحسن ألا يأكل ما يشتهي ولو كان حلالا ، بل يفطم النفس في بعض الأحيان أو كلها لأمرين:
أولهما – أن ذلك تقوية للإرادة فلا يكون عبدا لبطنه ، فلا يقع في الإسراف المنهي عنه .
ثانيهما – أن التمكن من أكل الحلال أمر كله لا يدوم ، فقد يصاب بالحرمان فيستعد له قبل الابتلاء به ، فيكون قادرا على الصبر ، وإن الله تعالى مكن الذين آمنوا من هذه الطيبات في الدنيا فقال تعالى:{ قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة} .
أي أنها مباحة في الحياة الدنيا للذين يستمتعون بحلالها من غير إسراف ، ولا تقتير وقوله تعالى:{ خالصة يوم القيامة} ، يحتمل أن يكون المعنى أن هذه المتع يشترك في الدنيا معهم فيها غير المؤمنين ، أما يوم القيامة وفي الآخرة فتكون خالصة للمؤمنين ؛ لأنها تكون جزاء وفاقا لما قدموا في الدنيا .
ويحتمل أن المعنى أنها تكون في الدنيا صادرة عن نفوس طيبة مؤمنة ، وتكون خالصة لله تعالى ، وخالصة من كل إثم ، أما غير المؤمنين فإن تناولهم لهذه الطيبات قد يكون إثم مبطئ من الخير ، فحبطت أعمالهم ، والاحتمالان جائز جميعهما ، فيكون المعنى خالصة يوم القيامة لهم ، وخالصة من الآثام في الدنيا ، وختم الله – سبحانه وتعالى – الآية بقوله تعالت كلماته:
{ كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون} ، أي هكذا البيان الذي بينه تعالى في هذا الشأن يفصل ، أي يبين الآيات القرآنية الكونية لقوم من شأنهم أن يعلموا ، فلا تغطى غواشي الأوهام والأهواء قلوبهم ، فيدركون الحق ويعلمون بنور بصائرهم ، ومن شأنهم أن يعلموا ؛ ولذا عبر بالفعل المضارع والله تعالى أعلم .