{الْفَوَاحِشَ}: واحدها فاحشة ،وهي الخصلة التي يقبح فعلها لدى أرباب الفِطَر السليمة والعقول الراجحة ،ويطلقونها أحياناً على الزنى والبخل والقذف بالفحشاء والبذاء المتناهي في القبح .
{وَالإِثْمَ}: في الأصل القبيح الضّار ،وهو شاملٌ لجميع المعاصي ،كبائرها كالفواحش ،وصغائرها كالنظر بالشهوة لغير الحليلة ،وكلّ ما يوجب انحطاط مقام الإنسان وسقوط منزلته ويمنعه من الوصول إلى الثواب والأجر الحسن ،وقال الراغب: الإثم والاثام: اسم للأفعال المبطِئة عن الثواب ،وجمعه آثام ،ولتضمّنه معنى البطء قال الشاعر:
جُماليّة تغتلي بالرَّوادفِ إذا كَذَبَ الآثماتُ الهجيرا
وقوله تعالى:{فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} أيّ في تناولهما إبطاءٌ عن الخيرات .وفي ضوء ذلك ،يتضمّن الإثم معنى الضرر الذي يبطىء بالإنسان عن الخير وهو المنفعة لحياته ،ولعلّ هذا هو الأساس في إطلاق كلمة الإثم على الخمر للمفاسد الناتجة عنه ،وربما غلب عليه ذلك بلحاظ استعماله فيه بهذه المناسبة .
{وَالْبَغْيَ}: تجاوز الحد ،بالاستطالة على الناس ،وحدّه ،كما في مجمع البيان ،طلب الترأس بالقهر من غير حق ،وأصله: الطلب .
{سُلْطَاناً}: السلطان: الحجّة .قال في المجمع: السلطان والبرهان والبيان والفرقان نظائر ،وحدودها تختلف ،فالبيان إظهار المعنى للنفس كإظهار نقيضه ،والبرهان إظهار صحة المعنى وإفساد نقيضه ،والفرقان إظهار تميز المعنى مما التبس به ،والسلطان: إظهار ما يتسلّط به على نقيض المعنى بالإبطال
الأشياء التي حرمها الله
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} فالله لم يحرم حاجات الحياة الطبيعية التي تبني الجسد وتريحه ،بل حرّم الأشياء التي تسيء إلى سلامة الروح ،وصفاء الفطرة ،ونظام الحياة ...فليست المسألة عنده أنه يريد أن يحرم عباده من متع الحياة ولذاتها ،بل كل ما يريده ،أن يمنع عنهم ما يكدّر هذه المتع ويشوِّه جمالاتها ...فما الأشياء التي حرّمها ؟لننظر إلى هذه الأمور التي ذكرها في الآية كنموذج .فقد{حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} ،وهي المعاصي التي تبلغ الحد الكبير من القبح والإنكار في حياة الناس ،كالزنى واللواط ونحوهما…{مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ،أي ما أعلن ،كما في نصب الرايات التي كانت ترفعها اللواتي يؤتين الفاحشة في الجاهلية ،{وَمَا بَطَنَ} وهي العلاقات المحرمة التي كانت تأخذ طابع السرية ،أو التي كانت تأخذ صفة الشرعية دون أساس ،كنكاح الأبناء زوجات آبائهم من غير أمهاتهم… فقد اعتبره الله فاحشةً محرّمة ،مما بطن من الفواحش .{وَالإِثْمَ} وهو الفعل الذي يكتسب الإنسان به الانحطاط في أخلاقه ،والهوان والسقوط في حياته ،كشرب الخمر الذي يسيء إلى عقله وماله وجاهه وعرضه… و{وَالبغي} وهو العدوان على الآخرين في الممارسات التي لا حقّ للإنسان بها ،كما في ألوان الظلم والتعدي على الناس في الاستيلاء على أموالهم وأعراضهم وحياتهم ...{بِغَيْرِ الْحَقِّ} لأن التصرّفات المماثلة لتلك التصرفات إذا كانت على أساس الحق كالمعاملة بالمثل في ما يجوز فيه ذلك لا تكون بغياً ،ولا تُعتبر حراماً .
{وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} وهذا من محرّمات العقيدة ،على أساس أنها من الأفكار التي لا ترتكز على حجةٍ ،وهذا هو المراد من قوله:{مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} ،لأن الله لا يحاسب الإنسان على الأفكار التي يملك حجة عليها ،بل يحاسبه على الأفكار التي لا يملك أساساً فكرياً لها ،كما في الشرك الذي لم ينطلق من قاعدةٍ فكريةٍ ،بل من خيالات وأوهام لا ترتكز على أساسٍ معقول ...{وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فتنسبون إليه ما لم يقله ولم يشرعه من أفعالٍ وأوضاع ،في ما تتحدثون عنه من تحريم هذا أو تحليل ذاك ،من غير علم في ما جعله الله من مصادر العلم من وحيٍ أو كلام نبي أو نحو ذلك ...
هذه بعض نماذج الأفعال التي حرمها الله ،وهي لا تتضمن تقييداً لطموحات الإنسان وتضييقاً لحياته ،بل كل ما هنالك أنها تحدد له المسار الفكري والعملي في ما يصلح أمره ويرفع مستواه .وفي ضوء ذلك ،يمكن للإنسان أن يعرف طبيعة التحليل والتحريم في الإسلام ،ليميز بذلك حق التحريم والتحليل من باطله .
المقصود بالظاهر والباطن من الفواحش
جاء في الكافي عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن أبي وهب ،عن محمد بن منصور قال: «سألت عبداً صالحاً ،عن قول الله عز وجل:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} قال: فقال: إن القرآن له ظهر وبطن ،فجميع ما حرّم الله في القرآن هو الظاهر ،والباطن من ذلك أئمة الجور ،وجميع ما أحلّ الله تعالى في الكتاب هو الظاهر ،والباطن من ذلك أئمة الحق .
وقد فسّر ذلك صاحب الميزان بقوله: «أقول: انطباق المعاصي والمحرّمات على أولئك ،والمحلّلات على هؤلاء ،لكون كل واحدٍ من الطائفتين سبباً للتقرب من الله أو البعد عنه ،أو لكون اتباع كلٍّ سبباً لما يناسبه من الأعمال » .
ولنا ملاحظة على ذلك ،أن الحديث ليس وارداً في مقام تطبيق الآية بحسب معناها الظاهر على أئمة الجور وأئمة الحق ،بل هو وارد في مجال بيان وجود معنى باطني للقرآن ،بحيث يكون مراداً منه على النحو الذي يراد منه المعنى الظاهر ،فلا ينسجم مع ما ذكره العلاّمة الطباطبائي قدس سره .
ثم نتساءل بعد ذلك ،أولاً: عن المراد من المعنى الباطن ،هل هو المعنى الذي يستبطنه اللفظ في عمقه ،وهذا غير مفهوم ،لأن اللفظ لا يستبطن إلا معناه اللغوي الموضوع له أو المنقول إليه ،فليس له معنيان في الأصل ظاهر وباطن .
أو هو المعنى الإيحائي الذي يستوحيه القارىء من الأفعال التي يحبها الله من الحلال أو يبغضها من الحرام ،فينتقل من ذلك إلى الأشخاص الذين يحبهم الله ،لأنهم يقودون الناس إلى حلاله ويبعدونهم عن حرامه ،وإلى الأشخاص الذين يبغضهم الله ،لأنهم يقودون الناس إلى الحرام ويبعدونهم عن الحلال ،وذلك من خلال أن الله عندما يتحدث عن الحلال والحرام في كتابه فإنه يريد للحلال أن يتحول إلى واقع في حياة الإنسان ،وللحرام أن يبتعد عن الواقع الإنساني ،ولا بد لهذا وذاك من قيادة شرعية أو غير شرعية ،لتنال رضا اللهفي هذا الموقعمن خلال التزامها بما يرضاه ،أو لتنال غضب اللهفي ذلك الموقعمن خلال حركتها نحو ما يغضبه ،ولعل هذا هو الأقرب إلى الجوّ العام للحديث وللآية .
وثانياً: ما هي علاقة الآية بأن للقرآن ظاهراً وباطناًكما في الرواية الموافقة لهذه الرواية التي ورد فيها أن القرآن ظهر وبطن ؟فإن الآية تتحدث عن الفواحش الظاهرة والباطنة من الأفعال الإنسانية ،وقد فسّرت الباطنةفي روايات أخرىبأن المراد مما بطن «ما نكح من أزواج الاباء ،لأن الناس كانوا قبل أن يبعث النبي( ص ) إذا كان للرجل زوجة ومات عنها تزوجها ابنه من بعده إذا لم تكن أمّه ،فحرّم الله عز وجل ذلك » .وجاء في الدر المنثور: «أخرج ابن أبي شيبة ،والبخاري ،ومسلم ،وابن مردويه عن المغيرة بن شعبة قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف ،فبلغ ذلك رسول الله( ص ) فقال: أتعجبون من غيرة سعد ،فوالله لأنا أَغَيَرُ من سعد ،والله أَغْيَرُ مني ،ومن أجله حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ،ولا شخص أغير من الله » ،فإن الظاهر من هذه الرواية وأمثالها أن المراد من قوله:{وَمَا بَطَنَ} الأفعال المحرّمة غير المعروفة لدى الناس في سلوكهم العام ،لا المعنى الباطني على خلاف ظاهر الآية ،فلا بد من رد علمها إلى أهلها .