وبعد أن أنكر عليهم أن يكونوا على علم في هذا الطريق النقلي وهو باب السلب والنفي ، توجهت الأنفس إلى معرفة ما يأمر به تعالى في محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق والخصال ، فبينه بطريق الاستئناف قائلا لرسوله{ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْط} .أي العدل والاعتدال في الأمور كلها ، وهو الوسط بين الإفراط والتفريط فيها ، وقد تقدم تفسيره لفظا ومعنى في سورتي النساء والمائدة ، والوسط في اللباس الذي يعبد الله تعالى فيه أن يكون حلالا نظيفا لائقا بحال لابسه في الناس لا ثوب شهرة في تفريط التبذل ، ولا في إفراط التطرس ، وسيأتي الأمر بأخذ الزينة عند المساجد من هذا السياق وقدم عليه هنا ما يتعلق بفقه العبادة ولبابها الدال على جهلهم بها ، وهو قوله:
{ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين} أي قل لهم أيها الرسول أمر ربي بالقسط فأقسطوا وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد أو وقل لهم أقيموا إلخ .إقامة الشيء إعطاؤه حقه وتوفيته شروطه كإقامة الصلاة وإقامة الوزن بالقسط .والوجه حسي ومعنوي فقوله تعالى:{ فول وجهك شطر المسجد الحرام} ( البقرة 144 ) من الأول وقوله:{ فول وجهك للدين حنيفا} ( الروم 30 ) من الثاني ، والمراد به توجه القلب وصحة القصد ، فإن الوجه يطلق على الذات ، وما هنا من الثاني وإن ورد عن بعضهم تفسيره بالأول أيضا ، وجعله بعضهم بمعنى التوجه إلى الكعبة في كل صلاة في كل مسجد أينما كان .والمعنى:أعطوا توجهكم إلى الله تعالى عند كل مسجد تعبدونه فيه حقه من صحة النية وحضور القلب وصرف الشواغل سواء كانت العبادة طوافا أو صلاة أو ذكرا أو فكرا وادعوه وحده مخلصين له الدين لا تشوبوا دعاءكم ولا غيره من عبادتكم له بأدنى شائبة من الشرك الأكبر هو التوجه إلى غيره من عباده المكرمين كالملائكة والرسل والصالحين ، ولا إلى ما وضع للتذكير بهم من الأصنام والقبور وغيرها ولا من الشرك الأصغر وهو الرياء وحب اطلاع الناس على عبادتكم والثناء عليكم بها والتنويه بذكركم فيها .وكانوا يتوجهون إلى غيره معه زاعمين أن المذنب لا يليق به أن يقبل على الله وحده ويقيم وجهه له حنيفا ، بل لابد له أن يتوسل إليه بأحد من عباده الطاهرين المكرمين ليشفع لهم عنده ويقربهم إليه زلفى .وهذا من وسواس الشيطان وشبهتهم فيه كشبهتهم في عدم الطواف في ثياب عصوه فيها ، وجعلهم هذا وذاك من الدين ونسبته إلى الله تعالى افتراء عليه وقول عليه بغير علم مما أوحاه إلى رسله ، وإنما أوحى إليهم ما نطقت به هذه الآية وأمثالها من الآيات الناطقة بالأمر بتجريد التوحيد من كل شائبة والإخلاص في العبادة كما أمر بأخذ الزينة عند كل مسجد وجعل الظاهر عنوانا للباطن في طهارته وحسنه من غير رياء ولا تكلف وهو مقتضى تحري القسط والعدل في كل أمر .
/م29