وقوله:( قل أمر ربي بالقسط ) أي:بالعدل والاستقامة ، ( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين ) أي:أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها ، وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله تعالى وما جاءوا به عنه من الشرائع ، وبالإخلاص له في عبادته ، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين:أن يكون صوابا موافقا للشريعة ، وأن يكون خالصا من الشرك .
وقوله تعالى:( كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ) - اختلف في معنى قوله تعالى ( كما بدأكم تعودون ) فقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد:( كما بدأكم تعودون ) يحييكم بعد موتكم .
وقال الحسن البصري:كما بدأكم في الدنيا ، كذلك تعودون يوم القيامة أحياء .
وقال قتادة:( كما بدأكم تعودون ) قال:بدأ فخلقهم ولم يكونوا شيئا ، ثم ذهبوا ، ثم يعيدهم .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:كما بدأكم أولا كذلك يعيدكم آخرا .
واختار هذا القول أبو جعفر بن جرير ، وأيده بما رواه من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج ، كلاهما عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال:قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال:"يا أيها الناس ، إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا ( كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ) [ الأنبياء:104] .
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين ، من حديث شعبة ، وفي حديث البخاري - أيضا - من حديث الثوري به .
وقال وقاء بن إياس أبو يزيد ، عن مجاهد:( كما بدأكم تعودون ) قال:يبعث المسلم مسلما ، والكافر كافرا .
وقال أبو العالية:( كما بدأكم تعودون ) ردوا إلى علمه فيهم .
وقال سعيد بن جبير:( كما بدأكم تعودون ) كما كتب عليكم تكونون - وفي رواية:كما كنتم تكونون عليه تكونون .
وقال محمد بن كعب القرظي في قوله تعالى:( كما بدأكم تعودون ) من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه ، وإن عمل بأعمال أهل السعادة ، كما أن إبليس عمل بأعمال أهل السعادة ، ثم صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه . ومن ابتدئ خلقه على السعادة ، صار إلى ما ابتدئ خلقه عليه ، وإن عمل بأعمال أهل الشقاء ، كما أن السحرة عملت بأعمال أهل الشقاء ، ثم صاروا إلى ما ابتدئوا عليه .
وقال السدي:( كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ) يقول:( كما بدأكم تعودون ) كما خلقناكم ، فريق مهتدون وفريق ضلال ، كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله:( كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ) قال:إن الله تعالى بدأ خلق ابن آدم مؤمنا وكافرا ، كما قال تعالى ( هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ) [ التغابن:2] ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأهم مؤمنا وكافرا .
قلت:ويتأيد هذا القول بحديث ابن مسعود في صحيح البخاري "فوالذي لا إله غيره ، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع - أو:ذراع - فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار ، فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع - أو:ذراع - فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة ، فيدخل الجنة "
وقال أبو القاسم البغوي:حدثنا علي بن الجعد ، حدثنا أبو غسان ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن العبد ليعمل - فيما يرى الناس - بعمل أهل الجنة ، وإنه من أهل النار . وإنه ليعمل - فيما يرى الناس - بعمل أهل النار ، وإنه من أهل الجنة ، وإنما الأعمال بالخواتيم "
هذا قطعة من حديث رواه البخاري من حديث أبي غسان محمد بن مطرف المدني ، في قصة "قزمان "يوم أحد .
وقال ابن جرير:حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"تبعث كل نفس على ما كانت عليه "
وهذا الحديث رواه مسلم وابن ماجه من غير وجه ، عن الأعمش ، به . ولفظه:"يبعث كل عبد على ما مات عليه "
قلت:ولا بد من الجمع بين هذا القول - إن كان هو المراد من الآية - وبين قوله تعالى:( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها ) [ الروم:30] وما جاء في الصحيحين ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه "وفي صحيح مسلم ، عن عياض بن حمار قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يقول الله تعالى:إني خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم "الحديث . ووجه الجمع على هذا أنه تعالى خلقهم ليكون منهم مؤمن وكافر ، في ثاني الحال ، وإن كان قد فطر الخلق كلهم على معرفته وتوحيده ، والعلم بأنه لا إله غيره ، كما أخذ عليهم بذلك الميثاق ، وجعله في غرائزهم وفطرهم ، ومع هذا قدر أن منهم شقيا ومنهم سعيدا:( هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ) [ التغابن:2] وفي الحديث:"كل الناس يغدو ، فبائع نفسه فمعتقها ، أو موبقها "وقدر الله نافذ في بريته ، فإنه هو ) الذي قدر فهدى ) [ الأعلى:3] و ( الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) [ طه:50] وفي الصحيحين:"فأما من كان منكم من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة "