التّفسير
حيث أنّ الحديث في الآية السابقة دار حول الفحشاء التي يشمل مفهومهاً كلّ أنواع الفعل القبيح ،وتأكَّدَ أنّ الله لا يأمر بالفحشاء إطلاقا لهذا أُشير في هذه الآية إلى أصول ومبادئ التعاليم الإلهية في مجال الوظائف الواجبات العملية في جملة قصيرة ،ثمّ تبعه بيان أصول العقائد الدينية ،أي المبدأ والمعاد ،بصورة مختصرة موجزة .
يقول أوّلا: أيها النّبي ( قل أمر ربي بالقسط ) والعدل .
ونحن نعلم أنّ للعدل مفهوماً واسعاً يشمل جميع الأعمال الصالحة ،لأنّ حقيقة العدل هي استخدام كل شيء في مجاله ،ووضع كل شيء في محلّه .
ثمّ إنّه وإن كان بين «العدالة » و «القسط » تفاوتاً ،إذ تطلق «العدالة » ويراد منها إعطاء كل ذي حق حقه ،ويقابلها «الظلم » وهو منع ذوي الحقوق من حقوقهم ،بينما يعني «القسط » أن لا تعطي حق أحد لغيره .
وبعبارة أُخرى: أن لا يرضى بالتبعيض ،ويقابله أن يعطي حقّ أحد لغيره .
ولكن المفهوم الواسع لهاتين الكلمتين اللتين قد تستعملان منفصلتين ،متساو تقريباً ،وهما يعنيان رعاية الاعتدال والتوازن في كل شيء وفي كل عمل ،وبالتالي وضع كل شيء في مكانه .
ثمّ إنّه سبحانه أمر بالتوحيد في العبادة ومحاربة كلّ ألوان الشرك وأنواعه ،إذ قال: ( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) أي وجهوا قلوبكم نحو الله الواحد دون سواه ،( وادعوه مخلصين له الدين ) .
وبعد تحكيم وإرساء قاعدة التوحيد ،وجه الأنظار نحو مسألة المعاد والبعث يوم القيامة ،إذ قال: ( كما بدأكم تعودون ) .
بحثان
هنا نقطتان يجب الالتفات إليهما والوقوف عندهما:
1ما المقصود من «أقيموا وجوهكم ...»
ذكر المفسّرون في تفسير ( أقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) تفاسير متنوعة ،فتارة قالوا: المراد هو التوجه صوب القبلة .
وأُخرى: إنّ المراد هو المشاركة في المساجد أثناء الصلوات اليومية .
وثالثة احتملوا أيضاً أن يكون الهدف منه هو حضور القلب والنية الخالصة عند العبادة .
ولكن التّفسير الذي ذكرناه أعلاه ( أي التوجه إلى الله ،ومحاربة كل ألوان الشرك والتوجه إلى غير الله ) يبدو للنظر أنّه أنسب مع ما سبق وما يلحق هذه الجملة ،وإن لم تكن إرادة كل هذه المعاني بعيدة عن مفهوم الآية أيضاً .
2أقصر الأدلة على المعاد
لقد بحث أمر المعاد والبعث في يوم القيامة كثيراً ،ويستفاد من آيات القرآن الكريم أنّ هضم هذه المسألة كان أمراً صعباً وعسيراً بالنسبة إلى كثير من الناس في العصور الغابرة ،إلى درجة أنّهم كانوا يتخذون أحياناً من طرح مسألة القيامة والمعاد من قبل الأنبياء دليلا على عدم صحة دعوتهم ،وبل حتى ( والعياذ بالله ) دليلا على الجنون ويقولون: ( افترى على الله كذباً أم به جنّة ){[1373]} .
ولكن يجب الانتباه إلى أنّ ما كان يدعو لمزيد من تعجبهم ودهشتهم ،هو مسألة المعاد الجسماني ،لأنّهم ما كانوا يصدّقون بأنّ الأبدان بعد صيرورتها تراباً ،و تبعثر ذراتها بفعل الرياح والأعاصير وتناثرها في أرجاء الأرض .أن تجتمع هذه الذرات المتبعثرة من بين أكوام التراب .وأمواج البحار ،ومن بين ثنايا ذرات الهواء ،ويلبس ذلك الإنسان لباس الوجود والحياة مرّة أُخرى .
إن القرآن الكريم أجاب في آيات متنوعة على هذا الظن الخاطئ ،والآية الحاضرة تعكس إحدى أقصر وأجمل التعابير في هذا المجال ،إذ تقول: أُنظروا إلى بداية الخلق ،انظروا إلى جسمكم الذي يتكون من مقدار كبير من الماء ،ومقدار أقل من المواد المعدنية وشبه المعدنية المختلفة المتنوعة أين كان في السابق ؟فالمياه المستخدمة في جسمكم يحتمل أنّ كل قطرة منها كانت سادرة في محيط من محيطات الأرض ثمّ تبخّرت وتبدلت إلى السُّحب ،ثمّ نزلت في شكل قطرات المطر على الأراضي ،والذرات التي استخدمت في نسيج جسمكم من مواد الأرض الجامدة كانت ذات يوم في هيئة حبّة قمح أو ثمرة شجرة ،أو خضروات مختلفة جُمعت من مختلف نقاط الأرض .
وعلى هذا فلا مكان للتعجب والدهشة إذا سمعنا أنّه بعد تلاشي بدن الإنسان ورجوعه إلى حالته الأُولى تجتمع تلك الذرّات ثانية ،وتتواصل و تترابط ويتشكل الجسم الأوّل ،فلو كان هذا الأمر محالا فلماذا وقع في مبدأ الخلقة .
إذا «كما بدأكم » الله «تعودون » أي يعيدكم في الآخرة ،وهذا هو الموضوع الذي تضمنته العبارة القصيرة .