وقد وصف الله تعالى في بيان أن العذاب بالكافرين لا مناص منه ، فقال تعالت كلماته:
{ إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين ( 40 )} .
السماء في الحس المكان الذي يجيء منه المطر ، والخير والبركات ، ولقد جعل الله السماء موطنا لذلك ، قال تعالى:{ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض . . . . . . ( 96 )} وعندما يدعوا الإنسان الله تعالى يتجه إلى السماء ضارعا ، والله تعالى لا مكان له ؛ لأنه منزه عنه والسماء لأنها علو يتجه الناس إليها ، لأنهم يريدون العلو ، ويبتغونه ، وإن المشركين الذين يكذبون بآيات الله لا يكون لهم رجاء ؛ ولذا قال تعالى:{ إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء} .
يلاحظ أن الله تعالى قال:{ كذبوا بآياتنا} ، قد عدى التكذيب بالباء ، وهو يتعدى بنفسه ، فيقال:كذبت هذا القول وكذبت هذا القائل ، وكذبت الآيات كذلك ، ولكن هنا تعدت بالباء ، كما في الآية السابقة ، وذلك لتضمن التكذيب معنى الكفر ، المعنى كذبوا رسلنا كافرين بآياتنا ، واستكبروا عادلين أو متجاوزين عن اتباعها .
ذكر الله تعالى للكافرين بآيات الله تعالى جزاءين:
الجزاء الأول – أنه لا تفتح لهم أبواب السماوات ، والمعنى في ذلك يحتمل أمورا يصح أن تراد كلها ، الاحتمال الأول:أن المراد أن تغلق أبواب الرحمة في الآخرة ، وعبر عن ذلك بأبواب السماوات ؛ لأن الرحمة تكون في كثير من الأحيان من السماء ، فالشمس فيها ، وهي مصدر النور والحرارة ، والنجوم وبروجها ، والقمر وضياؤه ، ومنها المطر الذي يكون غيث ورحمة ، وذكر أبواب السماوات إشارة إلى أنهم سدوا على أنفسهم كل مصادر الرحمة والغفران ؛ لأنهم سدوا كل سبل الخير على أنفسهم في الدنيا ، فحق عليهم هذا في الآخرة .
الاحتمال الثاني:أن يكون المراد أرواحهم ، فأرواحهم لا تفتح لها أبواب السماوات ، بل تغلق دونها ؛ لأنها أرواح خبيثة نثنة يقزز منها أهل السماء والأرض إذ تكون أعمالهم الخبيثة قد أفسدت فطرتها .
الاحتمال الثالث:أعمالهم ، فلا تتفتح لها أبواب السماء ؛ لأنها في بعثهم يجزون عليها ، وإننا نرى أن تفتح أبواب السماء ، لا يكون لهم ؛ لأنهم لا يرحمون ولا يغفر لهم ، وأرواحهم خبيثة وأعمالهم لا ترفع إلى علو السماء بل تهبط إلى أوهاد الأرض ، والمراد في كل الأحوال ألا تنالهم رحمة السماء .
الجزاء الثاني - أنهم لا يدخلون الجنة وان ذلك مستحيل عليهم ، كاستحالة دخول الجمل في سم الخياط ؛ ولذا قال عز من قائل:{ ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} .
أي أنهم لا يمكن أن يدخلوا الجنة ؛ لأنهم لم يعملوا لها ، بل كان عملهم لجهنم ، وشبه استحالة ذلك باستحالة دخول الجمل بضخامته في سم الخياط ، والخياط هو ما يخاط به ، وهو ( الإبرة ) وسمها هو ثقبها الضيق الذي لا يدخل فيه إلا الخيط الرفيع ، وليس ميسرا .
فهذا حكم الاستحالة كما يقول الرجل لامرأته:أنت طالق إذا قبضت على الشمس ، فهذا نفي مؤكد للطلاق ، لأنه علق على مستحيل .
وكذلك هنا في المعنى لا يدخلون إلا إذا ولج ، أي دخل الجمل في ثقب الخياط ، وذلك مستحيل ، فلم يدخل الجنة إلا إذا تحقق هذا المستحيل ولن يتحقق ، فهو نفي مؤكد لدخولهم ، وبيان استحالته عليهم ، وإذا لم يدخلوا الجنة فإنهم يدخلون النار ، وإنها للجنة أبدا ، وللنار أبدا ، قال تعالى:
{ وكذلك نجزي المجرمين} .
الواو واصلة هذا الكلام السامي بما قبله ، والشبيه معقود ما بين عذابهم ، واستحالة الرحمة بهم ، وبين ما أعده الله تعالى بالنسبة لكل من يجرم ويؤثم في حق الله تعالى ، والمعنى فهذا الجزاء الذي علمتموه يجزي الله المجرمين ، والإجرام ارتكاب جريمة وهي بمعنى المعصية والذنب ، بيد أن في لفظها إشارة إلى الاعتداء على غيره ، فالمعاصي قسمان معاص هي الآثام ، ولا يتعدى فسادها صاحبها ابتداء ، فإن كان شيوع الفساد يضر بالرأي العام فيتعدى انتهاء ، ومعاص تضمن ابتداء معنى الاعتداء كالقتل والقذف والسرقة ، وغير ذلك من المعاصي التي تتعدى ابتداء .