لقد كفر المشركون والكفار من أهل الكتاب ، وانتظروا تحقيق ما يدل عليه من بعث وحساب وعقاب وثواب ؛ ولذا قال تعالى:
{ هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل} .
إن الكفار من وثنيين وكتابيين لم يؤمنوا بالقرآن ، ولا بما اشتمل عليه ، يوجه الله تعالى إليهم سؤلا استنكاريا فقال:{ هل ينظرون إلا تأويله} ، و ( النظر ) هنا بمعنى الانتظار كقوله:{ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور ( 210 )} ( البقرة ) .
والاستفهام هنا إنكاري لنفي الوقوع ، والمعنى لا ينتظرون إلا تأويله:والتأويل هنا معرفة المآل والعاقبة ، أي لا ينظرون إلا أن يروا مآلهم وعاقبتهم ، لقد أنكروا البعث وأنكروا الحساب والعقاب ، فهل ينتظرون أن ينزل ذلك بهم واقعا لا فكاك عنه ، حيث يأتيهم ما أنكروه من بعث ، وحساب ومن ذلك عقاب وثواب . وإن تأويل القرآن كما قال ربيعة:لا يزال يجيء آنا بعد آن ، فكل خبر فيه يتحقق حتى يجيء الخبر الأكبر ، وهو البعث والنشور والحشر والميزان ، والصراط وما أخبر به مما ينكرونه ، ولا يؤمنون به .
وعلى ذلك لا تكون كلمة التأويل مرادا بها التفسير ، إلا أن يراد بها التفسير الواقعي الذي يكون يوم القيامة ، وإنه عندما يجيء ذلك المآل الحق يتذكر الناسون ، و ينتبه الغافلون ، ويرون لنا عيانا ما أنكروه في الدنيا جهارا ؛ ولذا قال تعالى:{ يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق} ، أي الذي نسوا تأويل الكتاب من قبل أي وهم في الدنيا متذكرين قد ذكرتهم الزواجر وقرعت حسهم العقوبات{ قد جاءت رسل ربنا بالحق} ، أي قد جاءت هذه الرسل منذرة ومبشرة داعية إلى الحق ، ولتتميم قولهم وعنادهم وجحدنا بالآيات وكذبناها . ويقرون الآن بالحق الذي أنكروه فينصون على أن الرسل جاءوا بالحق ، أي الأمر الثابت الذي لا يرد ولا ينكر ، وأحسوا بغفلتهم عنه في الدنيا وأن العذاب واقع بهم لا محالة ، فيتجهون إلى طلب الشفعاء ، فيقولون:{ فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا} .
( الفاء ) هنا لتفصل ما اعترى نفوسهم في هذا الهول ، ومع أن الله قد قال في كتابه عن هذا اليوم لا يقبل فيها شفاعة ولا عدل ، مع ذلك طلبوا الشفعاء ، أو رجوا أن تكون ثمة شفاعة ، فقالوا:{ فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا} ، و( من ) هنا لاستغراق الطلب ، والمعنى هل يوجد لنا من شفعاء أي شفعاء كانوا ، سواء أكانوا أولياء أم كانوا أعداء ، ولو شامتين ، ولكنها أمنية لا تتحقق ؛ ولا يمكن أن تتحقق ؛ لأن الله تعالى نفى ذلك في الدنيا ، وهو لا يخلف موعده .
ولأنهم يئسوا من أن يكون لهم شفعاء قالوا أمرا آخر وهو أن يردوا إلى الدنيا ، فيعملوا غير الذي عملوا فيقولون:أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل} .
ولكنهم إذا عادوا إلى الدنيا سيطرت أهواؤها وغرتهم بغرورها فكانوا كما هم ، ولقد قاتل الله تعالى في آية أخرى:{ ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ( 27 ) بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ( 28 )} ( الأنعام ) .
ولقد ختم الله تعالى الآية بتسجيل الخسارة عليهم ، وتخلى أولياؤهم عنهم فقال عز من قائل:{ قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون}
أكد الله تعالى خسارتهم بقيد ، فقد خسروا في ذات أنفسهم إذ ضلوا ، والضلال خسارة للنفس ، وخسروا أنفسهم فأوقعوها في الهلاك الذي يكون يوم تأويله ، وخسروا الحق فكانوا من المبطلين ، وخسروا أيضا أولياء لهم يناصرونهم ، ولذا قال تعالى:{ وضل عنهم ما كانوا يفترون} أي غابوا غيبة منقطعة لا يعرفون أين هم ، وهم الأوثان التي كانوا يفترونها ، فخسروا خسرانا مبينا ، وعبر – سبحانه وتعالى – عن الأصنام بما كانوا يفترونه ؛ لأنهم لا وجود لهم إلا في افترائهم ، فصنعوها بأيديهم ، وأضافوا عليها افتراء من عند أنفسهم معاني العبودية فكان ضلالهم كبيرا .