ولقد بين الله – سبحانه وتعالى – أنه ما تركهم هملا من غير كتاب يعلمهم ويهديهم ويرشدهم ، فقال تعالى:{ ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون ( 52 )} .
ما تركهم رب العالمين سدى من غير هاد ولا مرشد ، بل أعذر إليهم بإنزال كتاب قد فصله على علم بما يدل عليه من عظات ، وما يوجههم إليه من آيات ، فقال تعالى:{ ولقد جئناهم بكتاب} أكد مجيء الكتاب لهم ب ( اللام ) و ( قد ) ، وقد عبر بأنه جاء إليهم ولم يقل أنزل عليهم ؛ لأنه نزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم والرسول جاء به إليه على أنه معجزته الكبرى ، وكلام الله تعالى الذي خاطبهم هم والأجيال القادمة إلى يوم القيامة ، فالمراد من الكتاب القرآن ، وجاء نكرة ومقامه التعريف ؛ للإشارة إلى فخامته ، وإلى أنه كتاب لا يتسامى إلى مثله كتاب .
ويقول تعالى:{ فصلناه} بيناه ووضحناه ، وأتينا بفصوله كاملة على علم بل اشتمل عليه من معرفة بالشرائع وأخبار النبيين ، وتنبيه إلى أن يكون القرآن وآياته ، للدلالة على وحدانية الله تعالى لا شريك له ، وذلك كقوله تعالى:{. . . . . . . . .كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ( 1 ) ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير ( 2 )} ( هود ) ، ولقد قال تعالى في آية أخرى:{. . . . . . . . . . أنزله بعلمه . . . . . . . . . . . . . ( 166 )} ( النساء ) .
وقد وصفه – سبحانه وتعالى – بوصفين جليلين:
أحدهما – انه{ هدى} ؛ وذلك لأنه معجزة هادية إلى الحق وصدق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وكل ما يشتمل هداية ببيان الشرائع والأحكام ، وما فيه مصلحة الناس في معادهم ومعاشهم ، وما فيه تنظيم جمعهم ، والسير بهم في سبيل الخير .
وثانيهما – أنه{ رحمة} لما فيه من أحكام كلها نفع وخير للمجتمع وفيها العدالة ، وهي الرحمة الكاملة بالمجتمع ، وفيه الأمانة وفيه شرعية القتال ، وفيه رحمة ودفع للفساد ،{. . . . . . . . . ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ( 251 )} ( البقرة ) .
وإن رحمة الله وهدايته وعلمه لا تؤتى أكلها إلا في قلوب مؤمنة غير جافية فهي التي ينبت فيها زرع الخير ويؤتى أكله ؛ ولذا قال تعالى:{ لقوم يؤمنون} .
أي لناس من شأنهم الإيمان بالحق إذا جاءهم ، ومن شأنهم الإذعان للحقيقة ، يؤمنون بها إذا عرفوها ، وهناك قلوب جافية طمس عليها ، هي غلف لا يدخلها النور ، ولا تصل إليها الهداية ، وهذه ليس من شأنها أن تؤمن ، ولو جاءتها الأدلة واحد بعد الآخر ؛ لأن عليها غشاوة تمنع وصول النور ، فالذين يجدون الرحمة والهداية في القرآن هم الذين من شأنهم الإيمان بالحق إذا جاءهم ؛ ولذا عبر بالمضارع الدال على الاستمرار ، والله تعالى أعلم .