/م52
قال عز وجل:
{ وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون} أي ولقد جئنا هؤلاء الناس بكتاب عظيم الشأن كامل التبيان وهو القرآن فصلنا آياته تفصيلا على علم منا بما يحتاج إليه المكلفون من العلم والعمل لتزكية أنفسهم وتكميل فطرتهم ، وسعادتهم في معاشهم ومعادهم ، حال كونه أو لأجل أن يكون بذلك منار هداية عامة وسبب رحمة خاصة لقوم يؤمون به إيمان إذعان يبعث على العمل لما أمر به والانتهاء عما نهي عنه ، وهو بهذا التفصيل العلمي حجة على من لا يؤمنون به إذا لم يهتدوا له ، ولم يرضوا لأنفسهم أن تكون أهلا لرحمته .
التفصيل عبارة عن جعل الحقائق والمسائل المراد بيانها مفصولا بعضها من بعض بما يزيل الاشتباه .واختلاف بعضها ببعض في الأفهام وليس معناه ذكر كل نوع منها على حدته ولا التطويل ببيان جميع فروعه ، ففي القرآن تفصيل كل شيء نحتاج إليه في أمر ديننا:أسهب حيث ينبغي الإسهاب ، وأوجز حيث يكفي الإيجاز .
مثال ذلك في العقائد أن البشر قد فتنوا بالشرك ، ولبس على أكثرهم الأمر ففرقوا بين توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية .إذ ظنوا أن الإيمان بوحدة الرب خالق الخلق ومدبر أموره هو الواجب له الممتنع أن يكون له شريك فيه .دون توحيد الإلهية وهو عبادته وحده .وأنه لا يضر التوجه إلى غيره كما يتوجه إليه بالدعاء وطلب ما يعجز المرء عن نيله من طريق الأسباب ، وهذا مخ العبادة ومحضها ، وكل من يُدْعَى مثل هذا الدعاء فقد اتُّخِذ معبودا وإلها .وشبهتهم في القديم والحديث أن اتخاذ ولي مع الله بقصد التقرب والتوسل به وشفاعته عنده مما يرضيه وأن المحظور هو الاستغناء به عنه ، ومأخذ هذا ما يعهدون من الملوك الظالمين الذي يتقرب إليهم الرعايا الضعفاء المستذلون بوزرائهم ، ويتوسلون إليهم بحواشيهم وحجابهم .فلأجل هذه الشبهات قرر القرآن إبطال هذا الشرك وأطنب في تفصيله كل الإطناب .
ومثاله في العبادات العملية أن صفة الصلاة وعدد ركعاتها مما يكفي فيه القدوة والتأسي بالرسول الموكول إليه ببيان التنزيل فلهذا يبينها القرآن على الوجه الذي تؤدى به .ولكنه كرر الأمر بإقامتها أي الإتيان بها على أقوم وجه وأكمله وبين حكمتها وفائدتها في عدة آيات .لأن معنى الإقامة والحكمة في وجوبها مما يغفل عنه أكثر الناس .
ومثاله في العلم الذي هو أساس الإيمان الصحيح والارتقاء في الدين والدنيا أن أكثر البشر كانوا قد ألفوا فيه التقليد والأخذ بأقوال من يثقون بهم من آبائهم ورؤساء دينهم ودنياهم .فلهذا كرر القول ببطلان التقليد وضلال المقلدين ، وجهل الظانين والمرتابين ، وكرر الحث على النظر والاستدلال والاعتماد على البرهان ، والتشنيع على المعرضين عن آيات السماوات والأرض وما فيها من جماد ونبات وحيوان وعن حكمه الخاصة في خلق الإنسان .فبمثل هذا التفصيل كان الإسلام دين العلم والعقل وكان القرآن ينبوع الهدى والحكمة والرحمة ، فيا حسرة على المحرومين من رحمته ، ويا شقاء الطاعنين في هدايته .