يختبرهم سبحانه من بعد الشدة بالنعمة ؛ ولذا قال سبحانه:
{ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء} .
{ ثم} هنا لبيان التراخي والافتراق بين ما كانوا عليه من بأساء أصابت أحوالهم ، وضراء أصابت أجسامهم ، وما اختبرهم من نعماء عمتهم ، فالفارق المعنوي والحسي بينهما عظيم .
وقوله تعالى:{ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} أي جعلنا بدل السيئة في مكانها الحسنة ، والسيئة هي ما يسوء وهي هنا البأساء والضراء ، لأنهما تسوءان ، والحسنة ، هي هنا الخير الذي يفيض به عليهم بعد الشدة ، وصور الله زيادة الخير بقوله تعالى:{ حتى عفوا} ، أي كثروا ، ونموا وزادوا ، فالعفو يطلق بمعنى الكثرة وبمعنى اليسير ، وبمعنى درس ، وقدم .
وهي هنا بمعنى كثروا ونموا ، وزاد الخير فيهم ، فعندئذ لا يذكر الجاحدون أنه فضل الله تعالى ونعمته ، وأنه إذا كانت الشدة توجب الضراعة ، فالنعمة توجب الشكر ، ولكنهم بدل أن يشكروا ، يقولون ذلك لنا وهو ما كان لأسلافنا وآبائنا مستهم الضراء والسراء ، وهكذا دواليك ، نسوا الله ، وحسبوها أمرا ينزل بهم خيرا بعد ضر ، وإذا كانوا ضرعوا في الشدة ، فقد كفروا بالنعمة وهم يمرحون ، وكذلك شأن الجاحد دائما كما قال تعالى:{ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه . . . . . . . . ( 12 )} ( يونس ) كما قال تعالى في شأن النفس الإنسانية:{ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ( 9 ) ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور ( 10 ) إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ( 11 )} ( هود ) .
وهكذا شأن الكافر ، تبئسه الشدة ، وتطغيه النعمة ، فهو غير ثابت النفس ، منكر لحكم الله تعالى ، وأما المؤمن فقلبه مطمئن بالإيمان ثابت قار ؛ ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم:( عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) ( 1 ){[1122]} فالنعم والنقم للمؤمن سواء في خيراتها ؛ النقم تصقله وتذهبه والنعم يحس فيها بوجوب شكر المنعم ، ولقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:( إن المؤمن إذا أصابه السقم ثم أعفاه الله منه كان كفارة لما مضى من ذنوبه وموعظة له فيما يستقبل ، وإن المنافق إذا مرض ثم أعفى كان كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه فلم يدر لم عقلوه ، ولم يدر لم أرسلوه ) ( 2 ){[1123]} .
إن الجاحدين أذلتهم المحنة ، وأطغتهم النعمة وكفروا بالنبي الذي بعث لهم ، ولم تجد فيهم الشديدة ذاقوها ، ولا النعمة فاضت عليهم ، بل زادتهم النعمة جحودا ، وقالوا هكذا كان آباؤنا مستهم الضراء والسراء ، فسنة الأولين تجري علينا ، ونسوا الله تعالى فأنساهم أنفسهم ، وبينا هم يرتعون في ما أنعم الله عليهم لاهين عنه – أنزل بهم عذابه فقال:{ فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون} .
( الفاء ) هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي أنه بسبب أنه لم تجد فيهم الشدة ، وأغرتهم النعمة ، عاقبناهم ، فأخذناهم إلى الهلاك ، بالرجفة أو بريح فيها عذاب شديد ، أو جعلنا قريتهم عاليها سافلها ، وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل ، وكان ذلك بغتة ، لم يتوقعوا وقوعه ، بل جاءهم فجأة وهم لا يشعرون ، أي لا يحسون بأنه سينزل بهم ، وإن الفجاءة تكون شديدة على من لا يؤمن بالله تعالى ؛ لأنها تأخذه وهو في مرحه وعبثه ؛ وذلك بخلاف المؤمن ؛ ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم:( موت الفجأة راحة للمؤمن ، وأخذه أسف للكافر ) ( 3 ){[1124]} .