وعبر الله تعالى بالكافرين لبيان أن الكفر هو السبب في وهنهم ، والله من ورائهم ، قال الله تعالى
{ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} .
بعد أن ذكر الله تعالى غزوة بدر الكبرى ، أو ( يوم الفرقان ) كما سماها القرآن الكريم ، أخذ يشير سبحانه وتعالى إلى المغزى الأمثل فيها ، وهو الطاعة لله ورسوله ، فهو كان أساس النصر وتخاذل النصر في أحد ، لنقصان في الطاعة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي هذه الآيات يبين الله تعالى مقصد الحرب عند الفريقين ، ومقام طاعة الله تعالى فيها .
قال تعالى:{ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ} .
الاستفتاح السين والتاء لطلب الفتح ، وهو النصر أو الفصل بين الحق والباطل ، كقوله تعالى:{ ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق} ( الأعراف:89 ) .
وهل استفتح المشركون ، أي أيعد الخطاب للمشركين ، أم يعد الخطاب للمؤمنين ؟ ، إن الخطاب في الآيات السابقة لهذه الآية للمؤمنين مثل:{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى} ، وقوله تعالى:{ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} ، وهكذا تجد الآيات السابقة المخاطب فيها المؤمنون ، والمتحدث عنهم بالغيبة الكافرون ، وكان مقتضى السياق ذلك ، كما هو فيما بعد هذه .
لكن طائفة من المفسرين قالوا:إن الخطاب للمشركين ، لأنهم استفتحوا فعلا بالله الذي كانوا يعلمونه ، وإن لم يوحدوه في العبودية ، ولقد ذكر الزمخشري وابن كثير وابن جرير عدة صور من عبارات استفتاحهم فيروى أنهم عندما أرادوا أن ينفروا لحماية العير ، ومحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا:اللهم انصر قرانا للضيف ، ووصلنا للرحم ، وفكنا للعاني إن كان محمد على حق فانصره ، وإن كنا على حق فانصرنا .
ويروى أنهم قالوا:اللهم انصر أعلى الجندين ، وأهدى الفئتين ، وأكرم الحزبين ، ويروى أن أبا جهل قال يوم بدر:اللهم أينا كان أفجر وأقطع للرحم فاحنه ، أي فأهلكه .
هذه صور للاستفتاح المروي ، وغن صح أن الاستفتاح كان منهم فلعلها جميعها قد وقعت منهم والاختلاف اختلاف عبارات لآحادهم لا لجمعهم .
وقوله تعالى:{ قد جاءكم الفتح} ، قال الزمخشري:إنه تهكم عليهم ، من حيث إن الفتح كان على غير ما يرغبون ، وقد يقال:إنه أريد الحد ، لأنكم إذا كنتم تستفتحون طالبين الفصل بينكم وبين محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فها هو ذا الفصل ، فاخضعوا له ولكنهم لا يطلبون حقا ، ولا يخضعون للحق ، وإن تنتهوا بالإيمان بالحق بموجب استفتاحكم ووعدكم فهو الإيمان وهو خير لكم ، وإن تعودوا إلى الباطل ومحاربة محمد ومن معه نعد إليهم بالنصر ، ولن تغني عنكم جماعتكم وكثرتكم شيئا ، ولو كثرت ، وإن الله تعالى مع المؤمنين دائما بنصره وتأييده ، وقد رأيتم مرات هذا النصر وذلك التأييد ، فصارت كلمتهم هي العليا والله عزيز حكيم .
هذا هو توجيه القول الكريم على أساس أن الخطاب للمشركين ، وهو ظاهر لا يقاومه إلا سياق الآيات السابقة قبلها وبعدها .
وأما تخرج القول الكريم على أن الخطاب للمؤمنين فإنه يؤيد سياق الخطاب ، ويكون المعنى إن تستفتحوا أيها المؤمنون ، بأن تتضرعوا إلى الله تعالى طالبين الفتح والنصر ، وتستغيثون به ، فقد جاءكم النصر فعلا ، ومعه الغنائم التي طلبتموها وأردتموها ، وقد علمتم أن ذلك بفضل الطاعة ، والامتناع عن العصيان{ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي إن تنتهوا إلى الطاعة ، وإصلاح ذات بينكم وتقوية جمعكم ، فهو خير لكم ،{ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ} أي إن تعودوا إلى المشاحنة والخلاف على الغنائم والمنازعة نعد لكم بالخذلان والفشل ، كما قال تعالى:{ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} ( الأنفال:46 ) ولا تغني الكثرة شيئا مع الاختلاف لأن الاختلاف لا يكون فيه القوة على العدو ، ولكن يكون بأسهم بينهم شديدا ، فحربهم على أنفسهم لا على أعدائهم ، وقد أكد سبحانه وتعالى ذلك فقال:{ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ} .
أكد سبحانه وتعالى النفي ب ( لن ) ، وأنه لا يغني أي شيء ولو قليلا ، وثالثا أنه لا يغني مع الكثرة . وإن الله سبحانه وتعالى علام الغيوب ، يخبر بما سيكون يوم أحد ، فقد كانت معهم قوة ، وسابقة نصر ، ولكن لم يطيعوا واختلفوا على الغنائم فلم ينتصروا ، ولا نقول انهزموا ، بل كان الأمر بينهما .
ذلكم تخريجان ، ونحن نرى أن الأقرب إلى سياق الآيات ، وإلى سياق الأمر بالطاعة ، وإلى الانسجام البياني المعجز ، أن نقول:إن الخطاب للمؤمنين تحذيرا وإنذارا .
وختم الله تعالى الآية بقوله تعالت حكمته وكلماته:{ وأن الله مع المؤمنين} ( أن ) مفتوحة الهمزة للدلالة على أنها متعلقة بقوله تعالى:{ وأن الله موهن كيد الكافرين} ، ويكون هذا قرينة على أن الخطاب للمؤمنين وليس للكافرين ، وهناك تقول:إن ( إن ) مكسورة .
والتعبير بقوله تعالى:{ وأن الله مع المؤمنين} سواء أكانت أن مكسورة أو مفتوحة يدل على أمرين:
أحدهما – أن الله تعالى مع المؤمنين ، ينصرهم ، ويكون الفتح في جانبهم ومعهم دائما ، والثاني – أن ذلك يكون إذا تخلقوا بأخلاق المؤمنين ، ولم يتفرقوا ، حتى لا يفشلوا فتذهب ريحهم .