{ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} .
كانوا يصفرون ويصفقون ، ويضعون خدودهم على الأرض ، وهم على هذه الحال ، ويسمون هذه الحال صلاة ، فهي في حقيقتها ليست صلاة إبراهيم ، ولا صلاة مطلقا ، ولكنهم سموها صلاة ، وعدوا أنفسهم بها مصلين ، وتجاوزوا كل معقول ، وعدوا أنفسهم أولياء البيت الحرام ، وهم يصدون الناس عنه ، ويتحكمون فيه ، وفيمن يغدون إليه إجابة لدعوة إبراهيم من كل فج عميق .
يقول تعالى:{ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً} أي ما كان دعاؤهم عند البيت أو ما كان ما يسمونه صلاة ، سولتها لهم نفوسهم عند البيت ، أي عند ذلك المكان المقدس الذي كان أول بيت وضعه الله للناس الذي قال اله تعالى فيه:{ إن أول بيت وضع للناس ببكة مباركا وهدى للعالمين ( 96 ) فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا . . . . . . . . ( 97 )} ( آل عمران ) ، إما كانت إلا مكاء وتصدية وذكر كلمة البيت ، وأن هذه التي سموها صلاة كانت عنده ، ليتبين عبثهم بهذا البيت المقدس ، وليتبين عبثهم في هذا المكان الذي ادعوا أنهم أولياؤه ، والمكاء كرغاء وخوار وغثاء ويعني الصفير ، فوزنه فعال ، وفعله مكا يمكوا إذا صفر ، والتصدية مأخوذة من الصدى ، والمراد التصفيق ؛ لأن التصفيق ترديد للصدى . وقد روي ذلك عن أبي حاتم ، وابن عمر ، وقال ابن عباس:كانت قريش تطوف بالبيت عراة ، وتصفق ، والمكاء:الصفير ، والتصدية:التصفيق .
ويروى أنهم كانوا يفعلون ذلك ، ليخلطوا بذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاته .
وإن الزمخشري يقول:إن الله تعالى سمى فعلهم ذلك صلاة تهكما عليه ، وقد جاء في الكشاف ما نصه:( فإن قلت ما وجه الكلام قلت هو نحو قوله:
وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه أداهم سودا أو محدرجة سمرا
والمعنى أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء ، ووضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة ، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء وهم يشبكون أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون ، وكانوا يفعلون ذلك إذا قرأ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ) .
وخلاصة القول أن نقول:إن تسمية عملهم صلاة على زعمهم ، أو نقول مقالة الزمخشري:إنه تهكم على فعلهم ، فسمى صلاة تهكما ، كما يسمى وضع الأيدي في القيود ، وهي الأداهم ، والسياط وهي المحدرجة السمر – عطاء ، وذلك إهانة للبيت ، وتحقيرا له ، لا يعقل أن يصدر من أوليائه فليسوا له .
هذه تصرفاتهم في البيت ، وهي صغار شديد لأمره ، لا يليق ببيت إبراهيم ، بيت الله العتيق ، ولذا قال تعالى:
{ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} .
وفي هذا الكلام التفات إليهم وتوجيه الخطاب لهم ، لأن مخاطبتهم بالعقاب يجعله أوقع في النفوس وأدعى للرهبة ، والفاء فاء الإفصاح ؛ لأنها فاء تفصح عن شرط مقدر ، إذ يكون الكلام تقديره:إذا كانت هذه صلاتهم وإذا كان هذا فسادهم ، فذوقوا العذاب بسبب كفركم .
وهنا إشارات بيانية يجب التنبيه إليها .
الأولى – التعبير ب ( ذوقوا العذاب ) فإنه مجاز عن نزوله بهم بحيث يمس إحساسهم ، وكأنه يذاق مذاقا مؤلما ولا يخلوا ذلك من تهكم بهم ، كما يقول الله تعالى:{ فبشرهم بعذاب أليم ( 34 )} ( التوبة ) .
الثانية – قوله تعالى:{ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ 35 )} ، فإنها تدل على استمرار الكفر ، وأن هذا الاستمرار هو السبب في ضلالهم ، فإن كنتم وكان فيها دالة على الاستمرار .
الثالثة – أن التعبير بالمضارع يفيد تصوير حال كفرهم المتجدد المستمر ، فكل ساعة تمر وهم كافرون تجديد للكفر ، وحيث يتجدد الكفر يتجدد سبب العذاب ، وقانا الله تعالى منه .