وإن المشركين بذلوا ، وسيبذلون كل مال للصد عن سبيل الله ؛ ولذا قال سبحانه:
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} .
هذه الآية أقرب إلى الظن أنها مدنية ، ولكن نقبل ما يقرره القراء ، وهي أنها مكية عند بعضهم ، وهي لا تتغير بوصف المكية أو المدنية ، فكله كلام الله تعالى ، لا يتغير بميقات نزوله ، ونحسب أن ما في سورة الأنفال مما نزل بمكة ، قد انتهى إلى ما قبل هذه الآية .
كتب الصحاح التي تكلمت في أسباب النزول تجمع على أن سبب نزول هذه الآية أن قريشا بعد أن عضتهم الحرب في بدر ، وأرادوا أن يثأروا لأنفسهم جمعوا ما لا لينفقوه في حرب أخرى يعدون لها ، ولكن قال الضحاك:إنه عنى بالآية المطعمون الذين كانوا يطمعون يوم بدر ، وكانوا اثني عشر رجلا .
والمذكور في سيرة محمد بن إسحاق أنه لما أصيبت قريش يوم بدر ، ورجع فلهم إلى مكة ، ورجع أبو سفيان لعيره ، مشى رجال من قريش أصيب آباؤهم وابناؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان ، ومن كانت له في تلك العيرة تجارة فقالوا:( يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم ، وقتل خياركم ، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرا بمن أصيب منا ) ففعلوا ، وقد ذكر ذلك عن ابن عباس ، رضي الله تعالى عنهما .
وأيا كانت الأخبار في ذلك وإنها لصادقة ، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وإن الله تعالى الرحيم الرءوف بعباده ، لا يجعل المؤمنين فريسة لأموال المنافقين ينفقونها للصد عن سبيله ، فينصروا بأموالهم وينخذل أهل الحق ، فصد هؤلاء عن سبيل الله .
إن الله تعالى يؤكد أن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فلا يتحقق لهم قصدهم فيقول:{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} .
أكد الله سبحانه الإنفاق لهذه الغاية وهي الصد عن سبيل الله ، وذلك يجعل كلمة الشرك عالية ، ويخضد شوكة المسلمين دعاة الحق ، ويمنع الرسول ومن اتبعه من الدعوة ، وفي سبيل حرب أهل الإيمان ، وقد أكد الله تعالى أنهم سينفقونها بهذه النية الفاسدة ، فالسين هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل ، وقد كرر النص الكريم الإخبار بالإنفاق ، والأول للغرض من الإنفاق ، وهو أنه للصد عن سبيل الله فهو بيان للنية الخبيثة ، والقصد الفاسد .
والثاني لبيان أنه لا نتيجة لهذا الإنفاق ، بل يكون عليهم حسرة ، وسيغلبون .
والفاء في قوله تعالى:{ فسينفقونها} لبييان وقوع ما يريدون من غير أن يترتب عليه ما يحبون .
و ( ثم ) هي للعطف والترتيب ، وكان التعبير ب ( ثم ) لبيان بعد ما يقع عما يريدون ، فهم أرادوه سرورا لأنفسهم بتحقيق الصد عن سبيل الله ، وهزم الحق ، وكانت النتيجة ليست سرورا بل حسرة ؛ لأنهم لم يحققوا ما أرادوا وكانت الهزيمة ، وهي حسرة ثانية ، وكان نصر المؤمنين ، وأن يكونوا هم المغلوبين .
ولاشك أن هذه الأمور التي ترتبت بعيدة عن الغاية التي أرادوها ، فكان التعبير ب ( ثم ) لهذه المفارقة بين النتائج التي حققت ، والمبعث للإنفاق .
والتعبير بالموصول في قوله تعالى:{ إن الذين كفروا} إيذان بأنهم يغالبون الله – وهم الكافرون – بأموالهم ، والله هو القاهر فوق عباده .
هذه عقوبتهم في الدنيا ، وهي إنفاقهم وإحباط عملهم ، وذهاب ذلك حسرات عليهم ، وأن يكونوا مغلوبين ما داموا ينازعون أهل الحق ويصدون عن سبيل الله .
أما في الآخرة فجهنم وبئس المصير ؛ ولذا ختم الله تعالى الآية بقوله تعالت كلماته:{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} أي والذين كفروا بسبب كفرهم يذهبون إلى جهنم يحشرون فيها ، وقدم الجار والمجرور للدلالة على الاختصاص ، أي أنهم يحشرون إلى جهنم وحدها ، والتعبير يحشرون يومئ إلى كثرة أهل جهنم ، وإلى أنهم يكونون في ضيق محشورون . اللهم قنا عذاب النار .