وقد كان الجيشان تحت عنايته سبحانه ، ليقدم كل منهم على القتال غير خانع ولا خائف ؛ ليبدي كل واحد منهما ما عنده من قوة ، وليعلم كل منهما كيف كان نصر الله للمؤمن ، وخذلانه للكافر مع انه أبدى كل ما أوتي من قوة .
فقال سبحانه:
{ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً} .
قد كان من أمر الله تعالى وتوفيقه أن يرى المؤمنين المشركين عددهم قليلا ، وأن يقلل عدد المؤمنين في نظر الكافرين ، كما قال تعالى:{ قد كان لكم آية في فئتين التقتا فتنة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ( 13 )} آل عمران ) .
وإن الحكمة في أنهم في نظر المؤمنين عدد قليل واضحة ؛ لأن الله تعالى ألقى في قلوب المؤمنين بأسا وقوة جعلتهم يستصغرون عددهم ، ويستهينون بقوتهم لكي يقدموا من غير وجل مع الإيمان بالله والنصر ، وقد رأوهم كذلك قلة ، إذ صغر أمرهم في نظرهم ، ولم يجدوا كثرتهم ، والعين قد تخطئ في العدد بالكثرة أو القلة فقد كان المشركون عددا كبيرا ، قد قدر النبي صلى الله عله وآله وسلم عددهم ، ولكن المؤمنين عندما التقوا بهم لما ألقاه الله تعالى في روع المؤمنين من قوة بأس وإقدام رأوهم قليلا ، لا للهمة التي بدت من المؤمنين كحمزة ، وعلي ، والزبير ، وابن رواحة ، وسعد بن معاذ فقد كانوا يفرون من سيوف هؤلاء حتى لم يروا في الميدان إلا عددا قليلا .
وأرى الله تعالى جيش المؤمنين قليلا في نظر المشركين عند اللقاء ليستهينوا بهم ، ويغتروا بقوتهم فيسترخوا في القتال ، حتى إذا غطتهم قوة المؤمنين ، ورأوا فيهم شدة البأس أرادوا المقاومة بعد الاستهانة والاسترخاء فلم يجدوا ، وأخذت صفوف المسلمين المتراصة تحصدهم حصدا ، وقد كانت رؤية عدد المسلمين قلة من الكافرين حقيقة ، وكنها سيطرت عليهم الاستهانة ، فقتلت منهم .
وقوله تعالى:{ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} فيه متعلق بفعل محذوف تقديره اذكروا إذ . . . . . . . . . . . . . . . . وفي ذلك تذكير بفضل الله في هذه المعركة ، إذ قواهم وسلطهم عليكم ، وأذهب عنكم الفزع منهم ، وثبت أقدامكم ، وهنا إشارتان بيانيتان:
إحداهما – أنهم لم يكونوا قليلا ، بل كانوا عددا كثيرا ، ولكن الله تعالى جعل أبصاركم ترى ذلك الكثير قليلا ، فالله تعالى هو الذي يخلق الأبصار ، فهو يجعله قليلا ، ويجعله كثيرا ، ولا تغيير في الحقائق إنما التغيير في الإدراك لحكمة علمها الله وقدرها ، وكان النصر بسببها وهو ينصر من يشاء بإذنه .
الثانية – قوله تعالى:{ ويقللكم في أعينهم} فقوله ( في أعينهم ) فيه إشارة إلى أن هذا التقليل في أعينهم هو من إرادة الله تعالى ، لأنه استهانة منهم أدت إلى استرخاء في القتال ، فالله سبحانه وتعالى ما جعل المؤمنين قلة ، لأنهم فعلا كانوا قلة ، ولكن عمل الله جعلهم يجعلون من أمر قتالهم أنهم قلة فقاتلوهم على أنهم عدد قليل فاستهانوا وتهاونوا ، وكان النصر المؤزر .
وقال تعالى:{ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً} – أي ليحقق الله بقضائه المحتوم أمرا كان مفعولا أي صار واقعا ثابتا ، وهو النصر بفضل الله ، وتأييده ، فقد حقق الله تعالى كل أسباب النصر فهيأ الأسباب المادية من النعاس الآمن ، وأنزل المطر الذي لبد الأرض ، وهيأ الأسباب النفسية من بشارة الملائكة ، ومن تقليلهم في أعينهم .
وختم الله تعالى بقوله:{ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ} ، أي إلى الله وحده ترجع الأمور يوم القيامة ، فهذا هو نصر الله عليهم في الدنيا بتوفيقه سبحانه ، وتهيئة كل الأسباب المؤدية إلى النصر ، وفي الآخرة الأمور كلها إليه سبحانه ، وتقديم الجار والمجرور دليل على أن الأمور لا ترجع إلا إليه سبحانه وهو يجازي المحسن إحسانا ، وللمسيء االعاقبة السوءى .