وإن الله تعالى يبين أنه سبحانه هو الذي جمع بين المؤمنين والمشركين في هذه المعركة فأغرى المؤمنين بالعير ، وحرك قريشا لحماية عيرها ، وهو الذي سهل اللقاء على الفريقين فأطمع المشركين في المؤمنين ، وسهل للمؤمنين اللقاء بهم ليحقق ما أراد سبحانه وهو إعزاز الحق ، وإذلال الباطل ، فقال تعالى:
إِد يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 43 ) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ( 44 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَلثثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ( 45 ) وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ( 46 ) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ( 47 )
إن اللقاء كما قررنا ، وكما أرشدنا الله تعالى كان بجمع الله بين الفريقين ، وتلاقيهما ، والنصر أيضا والإقدام كان بإرادة الله تعالى وهدايته .
وإن أول النصر ألا يهاب المؤمن عدو الله وعدوه بل يقدم وهو مدرع بأمرين أولهما – إرادة النصر ، والثاني – الصبر ، وقد هيأ الله تعالى الأمرين ، فقال تعالى:
{ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ} .
أما الصبر فقد أمر به في آيات كثيرة ، وقد أمر بالثبات ، كما سيأتي في الآية الأخرى ، وأما إرادة النصر فتكون بالإقدام ، وذلك برؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام الأعداء ، قليلين ، ورؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحي ، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:( الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من الوحي ) ( 1 ){[1176]} .
ومعنى رؤيتهم عددا قليلا ، أنه صلى الله عليه وآله وسلم رآهم في حال يستهين بها ، فلم يتكاثروا عليهم ، ولم يتضافروا على المؤمنين ، ورأى المؤمنين ظاهرين بارزين كأنهم كثيرون ، وكان أولئك قليلون من قوة الغلب ، ومظاهرتهم عليهم ، أو أنه يستتر عنه في منامه أكثرهم ، فيستبشر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر ، ويفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تأويل رؤياه أنه سينصر أهل الإيمان ، فم يفهم أن العدد قليل ، ولكن يفهم أن الرؤيا الصادقة النصر المبين لا محالة ، وذلك لا ينافي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدر عددهم بما بين تسعمائة وألف ، وقد كانوا كذلك .
وقوله تعالى:{ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} إذ مفعول لفعل محذوف أي اذكر يا محمد لأصحابك{ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} و ( قليلا ) مفعول مطلق لموصوف محذوف أي عددا قليلا ؛ ويوم هنا الوصف مقام الموصوف .
وإن الله تعالى أرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم العدد قليلا ، ليقدم المؤمنون واثقين ، فالثقة بالنصر تزيدهم قوة ، وتدفعهم إلى الإقدام ، ولا يصيبهم رهق ولا خوف ، فيتقدمون واثقين بالنجاة .
ويقول تعالى:{ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ} ، أي لو أراكهم الله عددا كثيرا قويا لأصابكم الفزع ووراء الفزع العجز ، وهذا معنى الفشل ، فالفشل هو العجز ،{ ولتنازعتم} لاختلفتم في الخروج ، ولكان فيكم من يخشى عاقبة الحرب مع قلة العدد ، ومع قلة العدة ، ، ومع قلة ما يحملكم ، فلقد كنتم في قلة من الأمرين ، ومع اختلاف التنازع في الفكرة ثم التنازع من بعد ذلك فيما بينكم وبين أنفسكم .
وقوله تعالى:{ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ} مؤداه الاختلاف في أمر القتال ؛ أتقدمون عليه مع إحساسكم بالقلة وضعف العدة أم تمتنعون عنه لهذا الإحساس . وعبر عنه بالتنازع لقوة أسباب الخلاف ، فإنها في باب القتال أمر خطير .
وقد درأ الله تلك الأسباب عن أعينكم بما رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من رؤيا صادقة كان تأويلها نصركم ، ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، يطمئن المؤمنين بعد أن تقرر القتال ، فبعد أن أخذ رأي الأنصار في القتال وقال قائلهم:( امض لما أمرك الله فإنا صدق في الحرب صبر عند اللقاء ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:( إني لأرى مصارع القوم ) ( 1 ){[1177]} .
ويقول سبحانه:{ ولكن الله سلم} ، الاستدراك من الكلام السابق ، وسلم الله تعالى من الفشل والجزع والتنازع ، وكان اللقاء يوم الجمعين مع النصر المؤزر ، الذي جعل المؤمنين أعزة ، بعد أن كانوا مستضعفين يتخطفهم الناس ، ثم ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته:{ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ذات الصدور هي ما يكون في الصدور مما يدفعها إلى الإقدام ، أو يثبط فيها العزائم ، أو يلقي فيها بالخور والخوف ، فالله تعالى عليم بها ، وبما يدفع الهمم ، ويقوي القلوب ، ويمنع الفشل والنزاع ، فيطب لأدوائها بما يقيها الهلع والفزع ويطمئن القلوب ، ويبعد عنها مخاوفها ، إنه عليم حكيم .
هذا ما أودعه قلب القائد الحكيم ، وأودعه قلوب المؤمنين بتلك الرؤيا الصادقة التي أراه إياها .