فإذا كان نصركم بتأييد الله ، وتؤمنون به حق إيمانكم فلا تستكثروا حق الله والضعفاء في الغنائم إن كنتم مؤمنين .
{ إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ} .
ذكرت في الآية السابقة الغنائم التي أخذت في بدر ، وكيف توزع ، واختص الله تعالى بالذكر الخمس على الضعفاء ، والذي ذكر باسم الله ورسوله .
ولكي تقي النفوس شحها ، أشار سبحانه إلى أن النصر كان من عند الله ، وفي هذه الآية:{ إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا . . . . . . . . . . .} يبين سبحانه وتعالى أن الموقعة كلها كانت بتدبير الله تعالى ، ولم تكن بتدبيرهم ، ولا بتدبير المؤمنين ، ولو تواعد الفريقان لاختلفا في الميعاد .
وإذ في قوله تعالى:{ إذ أنتم} متعلقة بمحذوف معناه:اذكر يا محمد أنت ومن معك إذ أنتم بالعداوة الدنيا ، وقد جئتم لمصادرة العير ، لم تريدوا نفيرا ، ولكن تريدون عيرا ، وقد أفلتت منكم ، وهي أسفل منكم ، أي أسفل من المدينة عند سيف البحر ، فجاءكم جيش هو بالعدوة الدنيا ، وقد قال بعض المفسرين:إن ( إذ ) بدل من يوم الفرقان ، وذلك جائز ، ولكن نختار ما ذكرنا ؛ لبعد ما بين البدل والمبدل منه ، ولأن تعلقها بمحذوف تكون ابتداء لكلام مستقبل فيه عبرة واضحة ، وبيان لأن النصر من عند الله العزيز الحكيم استقلالا ، ولأن ذكر يوم الفرقان لبيان التذكير به والإيمان بما فيه .
و{ العدوة} أعلى الجانب ، و{ الدنيا} مؤنث أدنى ، والبعد والقرب بالنسبة للمدينة ، و{ القصوى} مؤنث أقصى ، وهو القاصي عن المدينة ،{ والركب أسفل منكم} ، الركب هو العير الذي كانت فيه متاجر قريش ، وخرج المسلمون لأخذها بدلا من الأموال التي اغتصبها المشركون منهم وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم بغير حق ، ومن المقرر في قانون العدل والإنصاف أن من ظفر بعين ماله أو بمثله ممن اعتدى عليه واغتصبه كان له ان يأخذه ، فلا يذهب حق صاحب الحق هدرا ، ولأن المشركين إذ أهدروا حقوق المسلمين وأموالهم واستباحوا دماءهم ، فقد أباحوا دماء أنفسهم ، وأموالهم وما على المؤمنين من سبيل إن استباحوها ، فذلك قانون الحرب بسبب العداوة والبغضاء التي آثارها المشركون .
كان المؤمنون بالناحية القريبة من المدينة ، وكانت العير أسفل عند سيف البحر ، وقد كان ذلك لقاء بغير تدبر كامل مقصود ، بل هو لقاء توفيقي من الله تعالى .
وقد جاء في سيرة محمد بن إسحاق ( بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين دنا من بدر علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام في نفر من أصحابه يتحسسون له الخبر ، فأصابوا سقاة لقريش غلاما لبني سعيد بن العاص ، وغلاما لبني الحجاج ، فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجدوه يصلي ، فجعلوا يسألونهما:من أنتما ، فيقولون:نحن سقاة لقريش ، بعثونا نسقيكم من الماء ، فكرهوا خبرهما ، فضربوهما حتى أزلقوهما ، قالا:نحن لأبي سفيان فتركوهما ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:( إذا صدقاكم ضربتموهما ، وإذا كذباكم تركتموهما صدقا والله إنهما لقريش:أخبراني عن قريش ، قالا:هم وراء الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:كم القوم ؟ قالا:كثيرا ، قال:ما عدتهم لهم ؟ قالا:لا ندري ، قال:كم ينحرون كل يوم ؟ قالا:يوما تسعا ويوما عشرا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:عدتهم ما بين التسعمائة إلى الألف .
هذا خبر يؤكد نزول جيش المشركين بالعدوة القصوى على كثيب من الأرض ، والمؤمنون بالعدوة الدنيا ، وهنا نجد سؤال الزبير وسعد وعلي كان على العير ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان – وهم – خارجا للعير ، ولذلك كذبا الغلامين إذ لم يخبراهما عن العير الذي كان بحراسة أبي سفيان ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأل عن قريش .
والعير كما ذكرنا كان من أسفل المدينة عند سيف البحر ، كما أشار القرآن الكريم .
وإن قصة خروج جيش المؤمنين ، وجيش المشركين ، والعير ، هي كما أشار القرآن الكريم ، خرج جيش الإيمان وكان قليلا لمصادرة عير لقريش وقد أفلتت منه ، وهي ذاهبة إلى الشام ، فترصدها المؤمنون ، وهي عائدة ، وأحس بذلك أبو سفيان قائدها ، فمال بها نحو سيف البحر ، وأخبر قريشا بنجاتها ولكنها كونت جيشا لحمايتها ، وأصروا على الذهاب إلى بدر ، حيث كان الترصد للعير ، ليفرضوا هيبتهم في البلاد العربية ، وإنهم لم يتخاذلوا ، ولم يضعفوا ، فكان اللقاء بتوفيق الله تعالى أو توقيفه ، وإرادته ، ليعز الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون .
{ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} .
أي أن ذلك اللقاء الذي انتهى بذلك اللقاء الذي كان فرقانا بين الحق والباطل لم يكن بميعاد على الحرب ، ولا اتفاق ابتداء على معركة ،{ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} ، أي لتخلف بعضكم ، فيختلف الميعاد ، فالمؤمنون ابتداء ما أرادوه:لقلة عددهم ، ولقلة ما عندهم من عدة ولسطوة قريش في أرض العرب ، فقد يودون غير ذات الشوكة تكون لهم ، والمشركون ظهر التردد فيهم ، فبنوا زهرة تركوا جيش الشرك ، وبعض بني هاشم تركه ، ومن جاء منهم إلى الحرب كالعباس ما كان مريدا ، بل كان متورطا ، وما في قلوبهم من هيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما اعتراهم من العلم بأن الله معه ، ولو لم يؤمنوا به ، وخصوصا ما أفزعهم من خروجه من بين ظهرانيهم ، وهم يترصدونه يوم الهجرة ، فهم كانوا يتهيبون لقاءه ، وإن كانوا يعادونه ، ويقاومونه .
ولكن الله أوجد هذا اللقاء ، وإن ابتدأ غير مقصود من الفريقين المتقاتلين ؛ ولذا قال تعالى:
{ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} ، أي ليقضي الله تعالى أمرا وحققه ، وهو إعزاز الإسلام ، وإحقاق الحق وإبطال الباطل ، و ( كان ) ، أي قرره الله تعالى وثبته على أن يكون واقعا ثابتا مفعولا ، ويصح أن تفسر ( كان ) بمعنى صار أي صار مفعولا ، ولقد قال كعب بن مالك:إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد .
أغراهم الله تعالى بالعير ليخرجوا ، وأراد المشركون أن يحموا عيرهم فالتقوا وتحقق ما أراد الله . ثم قال تعالى:
{ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ} ( اللام ) هنا لا م العاقبة ، والمعنى لتكون نتيجة ذلك اللقاء أن يهلك الذين هلكوا عن بينة وحجة قائمة ، وهو أن الله تعالى ناصر المؤمنين وغالب الكافرين ، وأن الله تعالى مؤيد جنده ، ويستشرف المستشرفون إلى نصر الله ،{ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} أي حجة ونور وهداية أن يكون الحق غالبا ، وأن يظهر الله دينه ، ولو كره المشركون .
ويصح أن يكون الهلاك والحياة مجازيين ، ويراد من الهلاك الكفر ، ومن الحياة الإيمان ، ويكون المعنى وليكفر من يكفر عن بينة ظاهرة ، وهي بيان أن الله ناصر المؤمنين ويحيا المؤمنون بالإيمان عن بينة برجاء النصر .
وللزمخشري في هذا كلام قيم ننقله ، قال رضي الله تعالى عنه:( فإن قلت:ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين وإن العير كان أسفل منهم ؟ قلت:الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدو وشوكته ، وتكامل عدته تمهد أسباب الغلبة له وضعف شأن المسلمين ، والثبات في أمرهم ، وأن غلبتهم في مثل هذه ليست إلا صنعا من الله سبحانه ، ودليلا على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوته وباهر قدرته ، وذك أن العدوة القصوى التي كان المشركون فيها كان فيها الماء ، وكانت أرضا لا بأس بها ، ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار ( أي لينة مسترخية ) تسوخ فيها الأرجل ولا يمشي فيها إلا بتعب ومشقة ، وكانت العير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم ، فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم ، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم ليبعثهم الذود عن الحريم ، والغيرة على الحرب على بذل جهيداهم في القتال وألا يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه ، فيجمع ذلك قلوبهم ، ويضبط هممهم ، ويوطن نفوسهم على ألا يبرحوا موطنهم ، ولا يخلوا مراكزهم ويبذلوا منتهى نجدتهم ، وقصارى شدتهم ، وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر وقعة بدر ليقضي اله أمرا كان مفعولا من إعزاز دينه ، وإعلاء كلمته ، وعد المسلمين إحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة ، حتى خرجوا ليأخذوا العير راغبين في الخروج ، وشخص بقريش مرعوبين مما بلغهم من تعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأموالهم حتى نفروا ليمنعوا عيرهم ، وسبب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا ، وهؤلاء بالعدوة القصوى ووراء العير يحامون عليها حتى قامت الحرب على ساق وكان ما كان ) وهذا القول من عيون ما اشتمل عليه الكشاف من دقة معنى ، وبلاغة لفظ ، وتسام لإدراك سر القرآن ، وسر الأحداث .
ولقد ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى:{ وإن الله لسميع عليم} أي أن ذلك كله تدبير من الله ، وهو من مقتضى علمه الشامل الذي هو علم من يسمع من غير أذن ، ومن يبصر من غير عين جارحة ؛ لأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .
وقد أكد سبحانه علمه بالجملة الاسمية ، وب ( إن ) المؤكدة ، وباللام في قوله:( لسميع ) ، وبصيغة فعيل ، فسبحان من وسع كل شيء علما .