{ إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم ( 42 )}
{ إذا أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى} العدوة مثلثة العين لغة جانب الوادي وهي من العدو [ كالغزو] الذي معناه التجاوز وقد قرأها الجمهور بضم العين وقرأها ابن كثير ويعقوب وأبو عمرو بكسرها .ومن غير السبع قراءة الحسن وزيد بن علي وغيرهما بفتحها .والدنيا مؤنث الأدنى وهو الأقرب والقصوى مؤنث الأقصى وهو الأبعد .والمعنى إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا في ذلك اليوم في الوقت الذي كنتم فيه مرابطين بأقرب الجانبين من الوادي إلى المدينة وفيه الماء ونزل المطر فيه دون غيره كما تقدم مع بيان فوائده والأعداء في الجانب الأبعد عنها ولا ماء فيه وأرضه رخوة تسوخ فيها الأقدام .
{ والركب أسفل منكم} المراد بالركب العير التي خرج المسلمون للقائها إذ كان أبو سفيان قادما بها من الشام أو أصحابها وهو اسم جمع راكب .أي والحال أن الركب في مكان أسفل من مكانكم وهو ساحل البحر كما تقدم ، وقد ذكر هذا لأنه هو السبب لالتقاء الجمعين في ذلك المكان ، ولو علم المسلمون أن أبا سفيان أخذ العير في ناحية البحر لتبعوها وما التقوا هناك بالكفار ولا تعين عليهم القتال كما تقدم بيانه ، ولذلك قال:{ ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد} أي ولو تواعدتم أنتم وهم التلاقي للقتال هنالك لاختلفتم في الميعاد لكراهتكم للحرب على قلتكم وعدم إعدادكم شيئا من العدة لها وانحصار همكم في أخذ العيرولأن غرض الأكثرين منهم كان إنقاذ العير دون القتال أيضا لأنهم كانوا يهابون قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يأمنون نصر الله لأن كفر أكثرهم به كان عنادا واستكبارا لا اعتقادا ، وقد تقدم في تفسير أوائل السورة بيان حال الفريقين المقتضي لاختلاف الميعاد لو حصل ولإرادة الله هذا التلاقي وتقدير أسبابه وهو المراد بقوله تعالى:{ ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا} أي ولكن تلاقيتم هنالك على غير موعد ولا رغبة في القتال ليقضي الله أمرا كان ثابتا في علمه وحكمته أنه واقع مفعول لا بد منه وهو القتال المفضي إلى خزيهم ونصركم عليهم وإظهار دينه وصدق وعده لرسوله كما تقدم .
{ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة} أي فعل ذلك ليترتب على قضاء هذا الأمر أن يهلك من هلك من الكفار عن حجة بينة مشاهدة بالبصر على حقية الإسلام ، بإنجاز وعده تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه ، بحيث تنفي الشبهة ، وتقطع لسان الاعتذار عند الله عن إجابة الدعوة ، ويحيا من حي من المؤمنين عن بينة قطعية حسية كذلك فيزدادوا يقينا بالإيمان ، ونشاطا في الأعمال .
قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر ويعقوب حيي ( كتعب ) بفك الإدغام والباقون بإدغام الياء الأولى في الثانية ، وكل من الهلاك والحياة هنا يشمل الحسي والمعنوي منهما .وقد عرف معناه مفصلا في تفسير{ استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} [ الأنفال:24] .
{ وإن الله لسميع عليم} لا يخفى عليه شيء من أقوال أهل الإيمان والكفر ولا من عقائدهم وأفعالهم ، فهو يسمع ما يقول كل فريق من الأقوال الصادرة عن عقيدته ، والأعذار التي يعتذر بها عن تقصيره في أعماله ، عليم بما يخفيه ويكنه من ذلك وغيره ، فيجازي كلا بحسب ما يعلم وما يسمع منه .
وجملة القول:إن هذا الفرقان الذي رتبه الله على غزوة بدر قامت به حجة الله البالغة للمؤمنين بنصرهم كما بشرهم صلى الله عليه وسلم ، وهي حجته البالغة على الكافرين بخذلانهم وانكسارهم كما أنذرهم صلى الله عليه وسلم ، إذ لا مجال للمكابرة فيها ولا للتأويل .