وقد بين سبحانه من بعد ذلك أن الثبات هو القوة ، وقد ذكرنا أنه عبرة النفوس في القتال فقال تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} .
الفئة الجماعة من الناس ، والتعبير بفئة يفيد بأنهم قد فاء بعضهم إلى بعض ، وتجمعوا لغرض أن ينالوا منكم ، وكأن هذه الآية وما بعدها . تعد المؤمنين للقاء أشد عن لقاء بدر ؛ لأن لقاء بدر كان لأجل حماية المال ، واللقاء من بعد لأجل الثأر ، ولأجل إلقاء السطوة والسلطان ، وهو أعنف من المال ، وإذا كان الله تعالى قد استقبل القتال في بدر بعدم الفرار فقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ ( 15 ) وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 16 )} ( الأنفال ) ، فإنه سبحانه يستقبل القتال الجديد ، بطلب الثبات ، والذكر لله ، والطاعة لله ولرسوله ، ومنع التنازع ، وقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا} .
أمران جليلان عند اللقاء ، وهما الثبات ، وذكر الله . واللقاء لم يبين فيه من الذي ابتدأ باللقاء ، وظاهر القول أن المشركين هم الذين جاءوا إلى ديارهم والتقوا بهم ، ولقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ) ، ثم قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال:( اللهم منزل الكتاب ومجرى السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم ) ( 1 ){[1178]} .
أمر الله تعالى بالثبات بأن يلاقوهم ثابتين في أماكنهم ، فإنهم إن لم يثبتوا من عدوهم منالا ، وإن ثبتوا لا يقتل واحد من المؤمنين إلا إذا قتل عددا من المشركين ، وحيث كان الفرار كانت الهزيمة لا محالة ، وقد أمر بذكر الله كثيرا فإن النصر ليس بالسلاح ولا التخطيط فقط ، بل مع ذلك بأمرين في القلوب:
أولهما – الثبات ، فلا تضطرب الصفوف ولا يصيبها الخلل فترجف الأفئدة ولا تضيع الثقة بين الجند .
وثانيهما – ذكر الله تعالى ، فإن الله يجعل القلوب تطمئن ، وإن ذكر الله يملأها إيمانا ويقينا ، ورجاء في النصر . وإن ذكر الله يذهب فزع القلوب ، ويساعد على الثبات ، وإن ذكر الله يذكر بوعده بالنصر فهو يزيده أملا بالنصر ، وإن ذكر الله إذا جهر به في الميدان ازداد المؤمنون حماسة ، وألقي بالرعب في قلوب المشركين ، وإن ذكر الله يجعلهم لا يشغلهم عن الله شاغل ، وتكون أجسامهم وقلوبهم لنصره ، و{ كثيرا} مفعول مطلق أي اذكروا الله ذكرا كثيرا بحيث لا تتوقفوا عن ذكره مهما تشتد الحرب ، وتلتحم السيوف وتتلاقى بالحتوف وقال تعالى:{ لعلكم تفلحون} أي راجين بثباتكم وذكر ربكم أن تفوزوا بالنصر ، فالرجاء من الناس لا من الله ؛ لأن الله تعالى يعلم الغيب في السماء والأرض ، ويعلم ما كان وما يكون .