{ يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ( 45 ) وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ( 46 )} )} .
قوله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا} هو النداء الإلهي السادس للمؤمنين في هذه السورة وهو في إرشادهم إلى القوة المعنوية للمقاتلين التي هي السبب الغالب للنصر والظفر ، والفئة الجماعة وغلبت في جماعة المقاتلين والحماة الناصرين ، ولم يستعمل في التنزيل إلا بهذا المعنى حتى قوله تعالى في سورة النساء{ فما لكم في المنافقين فئتين} [ النساء:88] فإن المختلفين في شأنهم منهم من كان يقول بوجوب قتالهم لظهور نفاقهم وبقائهم على شركهم ومنهم من يقول بضده فهي في موضوع القتال .ومنه قوله تعالى في سورة الكهف:{ فما له من فئة ينصرونه من دون الله} [ الكهف:43] ومثله في سورة القصص .واللقاء يكثر استعماله في لقاء القتال أيضا حتى قال الزمخشري أنه غالب فيه وتبعه فيه كثيرونوكون اللقاء هنا لفئة يعين هذا المعنى الغالب ويبطل احتمال إرادة غيره .
والمعنى يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة من أعدائكم الكفار وكذا البغاة في القتال فاثبتوا لهم ولا تفروا من أمامهمولم يصف الفئة للعلم بوصفها من قرينة الحال وهي أن المؤمنين لا يقاتلون إلا الكفار أو البغاةفإن الثبات قوة معنوية طالما كانت هي السبب الأخير للنصر والغلب بين الأفراد أو الجيوش:يتصارع الرجلان الجلدان فيعيا كل منهما وتضعف منته ويتوقع في كل لحظة أن يقع صريعا فيخطر له أن خصمه ربما وقع قبله فيثبت حتى يكون بثبات الدقيقة الأخيرة هو الصُرَعة الظافر وكذلك كان جلاد فريقي دول أوربة في الحرب الأخيرة:فقد كل فريق منهما جميع نقوده ونقص عتاد حربه ، ووهنت قوى جنوده ، ومادة غذائه ، وهو يقول «إلى الساعة الأخيرة » حتى كان فريق الحلف البريطاني الفرنسي ومن معه يستغيث دولة الولايات المتحدة ويسألونها تعجيل الغوث بالأيام والساعات لا بالشهور والأسابيع ، ثم كان له الغلب بأسباب أهمها وآخرها الثبات وعدم اليأس مما ذاقوا من بأس الحلف الألماني في الحرب ومخترعاتهم فيها من المدافع الضخمة والطيارات تمطرهم العذاب من فوق رؤوسهم والغواصات تنسف بواخرهم وبوارجهم من أسفل منها الخ وكذلك يفيد الثبات في كل أعمال البشر فهو وسيلة النجاح في كل شيء .
{ واذكروا الله كثيرا} أي وأكثروا من ذكر الله في أثناء القتال وتضاعيفه ، اذكروه في قلوبكم بذكر قدرته ووعده بنصر رسله والمؤمنين ونصر كل من يتبع سنتهم بنصر دينه وإقامة سننه ، وبذكر نهيه لكم عن اليأس ، مهما اشتد البأس ، وبأن النصر بيده ومن عنده ، ينصر من يشاء وهو القوى العزيز ، فمن ذكر هذا وتأمل فيه لا تهوله قوة عدوه واستعداده ، لإيمانه بأن الله تعالى أقوى منهواذكروه أيضا بألسنتكم موافقة لقلوبكم بمثل التكبير الذي تستصغرون بملاحظة معناه كل ما عداه ، والدعاء والتضرع إليه عز وجل مع اليقين بأن لا يعجزه شيء .
{ لعلكم تفلحون} هذا الرجاء منوط بالأمرين كليهما أي أن الثبات وذكر الله تعالى هما السببان المعنويان للفلاح والفوز في القتال في الدنيا ثم في نيل الثواب في الآخرة .أما الأول فظاهر وقد بينا مثاله من الوقائع البشرية .وأما الثاني فأمثلته أظهر وأكثر ، ومن أظهرها ما نزلت هذه الآية في سياقه .
وهذه السورة بجملتها في بيان حكمه وأحكامه وسنن الله فيه وهو غزوة بدر الكبرى وقد تقدم بيانه ، وقد كان الكفار يمترون في كون الإيمانولا سيما الصحيح وهو إيمان التوحيد الخالي من الخرافات وما يستلزمه من التوكل على الله تعالى في الشدائد ودعائه واستغاثتهمن أسباب النصر في الحرب ، ولكن هذا قد صار معروفا عند علماء الاجتماع وفلسفة التاريخ وعلم النفس وعند قواد الجيوش وزعماء السياسة ، ومما ذكروا من أسباب فلج البوير على الإنكليز في وقائع كثيرة في حرب الترنسفال أن التدين في مقاتلتهم أكثر وأقوى منه في الجنود الإنكليزية .
وثبت أنه من أسباب انتصار الجيش البلغاري على الجيش التركي في حرب البلقان المشهورة ما كان من إبطال القواد والضباط من الترك للأذان والصلاة من الجيش والدعاية التي بثوها فيه من وجوب الحرب للوطن وباسم الوطن ولشرف الوطنفلما علموا بهذا أعادوا المؤذنين والأئمة بعمائمهم إلى كل تابور وأقاموا الصلاة فيهم .وقد روت الجرائد أن العساكر لما سمعت الأذان صارت تبكي بكاء بنشيج عال كان له تأثير عظيم ، وكان تأثير ذلك بعود الكرة لهم على البلغار ظاهرا ، وقد ذكرنا هذين الشاهدين في المنار كل واحد في وقته ، وسوف يرى الترك سوء عاقبة كفر حكومتهم ومحاولتها إفساد دين شعبها عليه .
وقد نشرنا في ( ص 846 و847 ) من مجلد المنار الأول حديثا للبرنس بسمارك وزير المالية ومؤسس وحدتها الذي انتهت إليه زعامة السياسة والتفوق في أوربة على جميع ساسة الأمم في عصره قال فيه:إن من تأثير الإيمان في قلوب الشعب ذلك الشعور الذي ينفذ إلى أعماق القلوب باستحسان الموت في سبيل الدفاع عن الوطن ولو لم يكن هناك أمل في المكافأة ، وعلله بقوله:« ذلك لما استكن في الضمائر من بقايا الإيمان ، ذلك لما يشعر به كل أحد من أن واحدا مهيمنا يراه وهو يجالد ويجاهد ويموت وإن لم يكن قائده يراه » .
فقال له بعض المرتابين:أتظن سعادتكم أن العساكر يلاحظون في أعمالهم تلك الملاحظة ؟ فأجابه البرنس:ليس هذا من قبيل الملاحظات وإنما هو شعور ووجدان ، هو بوادر تسبق الفكر ، هو ميل في النفس وهوى فيها كأنه غريزة لهاولو أنهم لا حظوا لفقدوا ذلك الميل وأضلوا ذلك الوجدان .
هل تعلمون أنني لا أفهم كيف يعيش قوم وكيف يمكن لهم أن يقوموا بتأدية ما عليهم من الواجبات أو كيف يحملون غيرهم على أداء ما يجب عليهمإن لم يكن لهم إيمان بدين جاء به وحي سماوي ، واعتقاد بإله يحب الخير ، وحاكم ينتهي إليه الفصل في الأعمال في حياة بعد هذه الحياة ؟
ثم ساق الوزير كلامه على هذا النمط بأسلوب آخر وهو الكلام عن نفسه فشرح للمخاطبين أنه لولا إيمانه بالله وبالجزاء في الآخرة لما كان يخدم سلطانه وحكومته ولما أجهد نفسه بتأسيس الوحدة الألمانية وتشييد عظمتها وإنه يفضل العيشة الخلوية في مزارعه على خدمة القيصر [ الإمبراطور] لأنه هو جمهوري بالطبع الخ والشاهد في كلامه تأثير الإيمان في القتال وإنما زدنا من كلامه لأنه حجة على ملاحدتنا دعاة التجديد بترك الدين اتباعا بزعمهم الكاذب لأهل أوربة .
هذا وإن الله تعالى قد أمر عباده المؤمنين بالإكثار من ذكره وحثهم عليه ووصف الصادقين به في آيات أخرى كما وصف المنافقين بقلته لأن الذكر غذاء الإيمان فلا يكمل إلا بكثرته ، فمن غفل عن ذكره تعالى استحوذ الشيطان على قلبه وزين له الشرور والمعاصي .وللزمخشري كلمة بليغة في هذا الأمر بالذكر هنا وفي السلف الصالح وما كانوا عليه من الاهتداء به قال:وفيه إشعار بأن على العبد أن لا يفتر عن ذكر ربه ، أشغل ما يكون قلبا ، وأكثر ما يكون هما ، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزعة عن غيره ، وناهيك بما في خطب أمير المؤمنين عليه السلام في أيام صفين وفي مشاهده مع البغاة والخوارج من البلاغة والبيان ، ولطائف المعاني وبليغات المواعظ والنصائح دليلا على أنهم لا يشغلهم عن ذكر الله شاغل وإن تفاقم الأمر اه .