وبعد أن بين الله سبحانه وتعالى أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا الذي بأنفسهم ، ذكر الطغاة ، وما يقضي به عليهم فقال تعالت كلماته:
{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ} .
التشبيه منعقد بين المشركين وآل فرعون الذين من قبلهم ، كما هو في الآية السابقة ، بيد أنه في التشبيه صرح سبحانه بما لم يصرح به في الآية السابقة ، ففي هذا التشبيه صرح سبحانه بأن أخذهم كان بالإهلاك الذي لا بقاء معه ، وفي هذا التشبيه صرح بإغراق آل فرعون ، ولم يصرح بذلك في التشبيه السابق ، وفي هذا التشبيه أنه كان مع الكفر والتكذيب لآيات الله كان الظلم للناس فلم يكتفوا بكفرهم ، وتكذيبهم لآيات الله وظلموا أحكامهم ، ولم يتخذوا العدل صراطا مستقيما لظلموا مخاليفهم ، وظلموا رسلهم مع رعيتهم ، والقول الجملى أن التشبيه الأول كان تقريبا بين الظالمين من مناهج ومسالك ، والثاني فيه معنى تعيين وجه الشبه .
قال تعالى في أوصاف المشركين وآل فرعون ومن قبلهم{ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ} أي أنهم جاءتهم المعجزات الباهرة القاطعة ، فجاء فرعون تسع آيات منفصلات فكذبها أي كذب ما تلد عليه من وحدانية الله تعالى في الخلق والتكوين والذات الألوهية والمشركون ، كذبوا ما تدل عليه المعجزة الكبرى وهي القرآن فوق ما تدل عليه الخوارق الأخرى من وجوب الإيمان بالرسالة .
وهذا التكذيب سبب الكفر ، فإذا كان قد ذكر في التشبيه الأول – بأن السبب في العذاب هو الكفر ، فقد صرح في هذا بأن سبب الكفر هو إصرارهم على التكذيب كأنه لا رقيب عليهم ولا حسيب .
وعبر سبحانه في التكذيب بأنهم كذبوا بآيات ربهم ، ونسبة الآيات المكذبة إلى ربهم تفيد فائدتين:
إحداهما – بيان فظاعة التكذيب ؛ لأنهم كذبوا بآيات ربهم الذي خلقهم وكونهم وربهم وهو العليم بما يناسبهم من أدلة .
والثانية – أن هذه الآيات من المتفضل عليهم بنعمة الوجود والتنمية ، وإعطائهم القوة التي طغوا بها .
ويقول سبحانه:{ فأهلكناهم بذنوبهم} ( الفاء ) عاطفة لرد ما بعدها على ما قبلها ، أي أنه بسبب تكذيبهم أهلكهم الله تعالى بسبب هذه عقابا من الله تعالى ، ولأن الذنوب المتظافرة يترتب عليها الهلاك لا محالة .
وفي الكلام التفات من الغيب إلى الحاضر ، والإسناد إلى الله تعالى ، بإسناد الإهلاك إليه سبحانه وتعالى ؛ لبيان تأكد الوقوع لأنه من الله تعالى القاهر فوق عباده العزيز الحكيم ، وبتربية المهابة في النفس ، وللتذكير بالرهبة .
وقد خص آل فرعون بذكر هلاكهم فقال:{ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ} اختص آل فرعون بذكر هلاكهم ؛ لأن فرعون كان أشهر ملوك عصره ، وأشدهم طغيانا عن رعيته ، وأرهبهم ، وأظلمهم ، فذكره للعرب وقد أهلكه الله تعالى بالغرق أرهب لنفوسهم وأشد على غرورهم وأردع لطغيانهم ، وفوق ذلك أغرقه الله تعالى بأمر خارق للعادة لم يكن في حسبانهم ، إذ انفلق البحر فكان كل فلق كالطود العظيم ثم انطبق عليهم بما لم يعهدوا ، ولم يحسبوا ، فهو يذكر المشركين بأن الله تعالى يأتيهم من حيث لم يحتسبوا ، وأنه سيهزمهم من حيث لا يشعرون ، بل يحسبون في أنفسهم أنهم الغالبون ، ويوسوس لهم الشيطان بأنه لا غالب لهم ، وقد وصف الله تعالى العصاة جميعا ، بأنهم ظالمون ، فقال تعالى:{ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ} أي كل الذين كفروا برسل الله ، وآيات ربهم كانوا ظالمين .
ف ( كل ) مضاف إلى محذوف يعم حكم الله تعالى عليه بأنه ظالم ، وأكد ذلك الحكم ب ( كان ) الدالة على استمرار الظلم وبالجملة الاسمية ، وقد ظلموا أنبيائهم بتكذيبهم مع أن الحق واضح أبلج ، وظلموا أنفسهم لأنهم ارتضوا الضلالة بدل الهداية ، وظلموا المؤمنين لأنهم آذاوهم ، وسخروا منهم ، وظلموهم لأنهم حاربوهم ، وهم فاجرون في حربهم ، وظلموهم لأنهم أشاعوا عنهم السوء ، وهكذا أحاط الظلم بهم ، والظلم ظلمات يوم القيامة والله منتقم جبار .