{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} .
( إما ) هنا كما في قوله تعالى{ فإما تثقفنهم} هي ( إما ) الشرطية مؤكدة بلفظ ( ما ) ؛ ولذا أكدت بالنون الثقيلة ، ولذا يكون تأكيدا للشرط ، فهو تأكيد للخوف ، والمعنى إن خفتم خوفا مؤكدا ، توفرت أسبابه حتى يكون توقع الخيانة أمرا ثابتا قامت أماراته وبدرت بوادره ،{ فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء}أ أطرح عددهم وأنبذه نبذا ظاهرا معلوما تكون وهم على سواء ، لا يربطكم ، ولتأكد الخوف قال بعض المفسرين:إن معنى الخوف هنا العلم .
وقد فسرنا كما ترى معنى الآية على سواء ، أي لتكونوا معهم على سواء أي متساويين تحللون من العهد ويكون الاستعداد من الجانبين ، وقيل:إن معنى{ على سواء} أي يكون النبذ معلوما مشهورا .
وإن النبذ يقتضي أن يكون ثمة عهد قد خانوه ، أو هموا بأن يخونوه ، وتؤكد لديكم هذا ، وتلك هي الأمانة التي أودعها الله تعالى وأوامره للمؤمنين ، بأن يكون أشرافا في الوفاء بعهودهم ،فإذا توقعوا الخيانة متأكدين لها ، فإنهم لا يسبقون بالخيانة ، بل ينبذون ويعلمونهم بأن لا عهد .
وإن الخيانة لها سورتان:
السورة الأولى – سورة الذين يتوقعون الخيانة ومتأكدين من وقوعها قبل أن تقع ، وفي هذه الحال يعلنون ترك العهد واعتبار كأن لم يكن ليسدوا .
السورة الثانية – أن يغدر المتعاهدون بالفعل ، كما غدر المشركون في صلح الحديبية ، فقد كان العهد يجيز لمن يدخل في جانب محمد أن يدخل فلا يعتدي عليه ، فدخلت خزاعة في عهده ، فاعتدت عليها قريش ، وقد رأينا ذلك في الدول في الماضي ، ونراه الآن ، ولذا يقول تعالى:
{ وأوفوا بالعهد مسئولا ، ( 34 ) ( الإسراء ) ، فكان الاعتداء بل الخيانة بالفعل .
وقد زال العهد بذلك ، فكان متحللا ؛ ولذا غزا الغزوة الكبرى بفتح مكة من غير نبذ ، إذ هم قد نبذوه من قبل لا بالقول بل بالفعل .
وقد كان الصحابة قبل أن ينقضوا هذا العهد بالفعل ، يحذرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نقضهم ويخافونه ، فكان النبي الوفي الأمين:( وفوا لهم واستعينوا الله عليه ) .
وإن ذكر الخوف من الخيانة يقتضى أن هناك عهدا عاهده صلى الله عليه وآله وسلم أو من جاء بعده ويخاف من نقضه فإنه لا خيانة إلا في عهد المبرمين .
ونقول:إن الخيانة قد تكون بحرب يعدونها ، وينقضون بها السلم الذي كان بحكم العلاقات الأدبية أو السلمية ويريدون أن يخونوا المسلمين ويأخذوهم ، فإنه إذا تأكد المسلمون نبذوا هذا السلم الذي كان أصل هذه العلاقة وكانوا معهم على سواء .
ولا يقال:إن النبذ بني على الخوف من الخيانة ، والخوف ظن ، ولا يبنى أمر قطعي على أمر ظني – لأننا قلنا:إنه خوف مؤكد بدت بوادر الخيانة وظهرت أماراتها ، والقائد المدرك لا ينتظر حتى تقع الخيانة ، بل يسارع بنبذ العهد ، ويستعد لهم ، ويحلهم من العهد ، كما أحل نفسه ، حتى لا يؤتى من غرة .
فعن عمر بن عبسة أنه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يقول:{ من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ، ولا يحلها حتى يمضى أمداها أو ينبذ إليهم على سواء ) ( 1 ){[1182]} .
وقد قال تعالى:{ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} ، هذا النص السامي فيه تعليل للنبذ على سواء ، أي أن النبذ على سواء إعلام بإنهاء العقد ، ليكون معلوما مشهورا ، ولا يقع المؤمنين في خيانة ؛ لأن الله تعالى لا يحب الخائنين فالنص يمنع عن الخيانة ، بالنبذ على سواء ، و إلا هجموا سواء على دمائهم قبل النبذ فقد خانوا ، والله تعالى لا يحب الخيانة ، وقد أكد نفي محبة الله تعالى للخيانة بالجملة الاسمية ، وب ( إن ) ونفى المحبة أبلغ في النهي ، لأن محبة الله مطلوبة ، فإذا كانت الخيانة لا تؤدي إليها فهي منهي عنها نهيا شديدا مؤكدا .