/م55
ثم بين تعالى حكم من لا ثقة بعهودهم من الكفار الذين يخشى منهم نقضها عند ما تسنح لهم غرة فقال:
{ وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} أي وإن تتوقع من قوم خيانة بنقض عهدك معهم بأن يظهر لك من الدلائل والقرائن ما ينذر به ، فاقطع عليهم طريق الخيانة لك قبل وقوعه ، بأن تنبذ إليهم عهدهم ، أي تعلمهم بفسخه وعدم تقيدك به ، ولا اهتمامك بأمرهم فيه .شبه ما لا ثقة بوفائهم به من عهودهم بالشيء الذي يلقى باحتقار ويرمى كالنوى التي يلفظها الآكل ويرميها تحت قدميه:انبذه إليهم على سواء أي على طريق سوي واضح لا خداع فيه ولا استخفاء ولا خيانة ولا ظلم .وقال البغوي:يقول أعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواء ، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب معهم اه .وأما الذين ينقضون العهد بالفعل فلا حاجة إلى نبذ المسلمين عهدهم إليهم ، بل يناجزون الحرب عند الإمكان كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين نقضت قريش عهد الحديبية بينه وبينهم بمظاهرة بكر على خزاعة الذين كانوا في ذمته صلى الله عليه وسلم .
والحكمة في هذا النبذ لعهد من ذكر ؛ بل العلة له:أن الإسلام لا يبيح لأهله الخيانة مطلقا ، فكيف تقع من أكمل البشر الذي كان يلقبه أهل وطنه منذ تمييزه بالأمين ، ثم بعثه الله ليتمم مكارم الأخلاق صلى الله عليه وسلم ، وذلك قوله تعالى:{ إن الله لا يحب الخائنين} بنقض عهودهم مع الناس ولا بغير ذلك .فالخيانة مبغوضة عند الله بجميع صورها ومظاهرها .
فلا وسيلة إذاً لالتقاء ضرر خيانة المعاهدين من الكفارإذا ظهرت أماراتها منهم مع عدم إباحة معاملتهم بمثلها مع بقاء العهد من جهتنا ، وعدم جواز حسبانه كما يقول الأقوياء من ملوك أوربة «قصاصة ورق »إلا نبذ عهدهم جهرا .وقد تكون هذه الوسيلة مانعة من خيانة العقلاء منهم الذين يتقون عاقبة نقض العهد ، إذا كانوا ضعفاء لا يتجرأون على الخيانة ، إلا إذا كانوا آمنين من معاملة الرسول والمؤمنين لهم معاملة الأعداء المحاربين ومناجزتهم إياهم القتال ، كما دل عليه قوله تعالى:{ لعلهم يتقون} .
روى البيهقي في شعب الإيمان عن ميمون بن مهران قال:ثلاثة المسلم والكافر فيهن سواء:من عاهدته فوف بعهده مسلما كان أو كافرا فإنما العهد لله ، ومن كانت بينك وبينه رحم فصلها مسلما كان أو كافرا ، ومن ائتمنك على أمانة فأدها إليه مسلما كان أو كافرا .وروى فيها عن سليم بن عامر قال كان بين معاوية وبين الروم عهد وكان يسير حتى يكون قريبا من أرضهم فإذا انقضت المدة أغار عليهم ، فجاءه عمرو بن عنبسة رضي الله عنه فقال وفاء لا غدر ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:( من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمرها وينبذ إليهم على سواء ) قال:فرجع معاوية بالجيوش .فهذا صحابي وعظ قائدا صحابيا من الاستعداد للحرب في وقت عهد السلم فاتعظ ورجع .
وفي هذه الآية والآثار الواردة في معناها من مراعاة الحق والعدل في الحرب ما انفرد به الإسلام دون الشرائع السابقة ، وقوانين المدنية اللاحقة .ومع هذه الفضائل والمزايا كلها يطعن دعاة النصرانية وغيرهم من مكابري الحق في هذا الدين ، وفي أخلاق من أنزل الله تعالى عليه هذه الأحكام الشريفة وقال له:{ وإنك لعلى خلق عظيم} [ القلم:4] .
/خ59