القول في تأويل قوله:وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
قال أبو جعفر:يقول تعالى ذكره:(وإما تخافن)، يا محمد، من عدو لك بينك وبينه عهد وعقد، أن ينكث عهد. وينقض عقده، ويغدر بك =وذلك هو "الخيانة "والغدر (13) =(فانبذ إليهم على سواء)، يقول:فناجزهم بالحرب, وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم، بما كان منهم من ظهور أمار الغدر والخيانة منهم، (14) حتى تصير أنتَ وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب, فيأخذوا للحرب آلتها, وتبرأ من الغدر =(إن الله لا يحب الخائنين)، الغادرين بمن كان منه في أمان وعهد بينه وبينه أن يغدر به فيحاربه، قبل إعلامه إياه أنه له حرب، وأنه قد فاسخه العقد.
* * *
فإن قال قائل:وكيف يجوز نقضُ العهد بخوف الخيانة، و "الخوف "ظنٌّ = لا يقين؟ (15)
قيل:إن الأمر بخلاف ما إليه ذهبت, وإنما معناه:إذا ظهرت أمارُ الخيانة من عدوك، (16) وخفت وقوعهم بك, فألق إليهم مقاليد السَّلم وآذنهم بالحرب. (17) وذلك كالذي كان من بني قريظة إذ أجابوا أبا سفيان ومن معه منالمشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاربتهم معهم، (18) بعد العهد الذي كانوا عاهدوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على المسالمة, ولن يقاتلوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم . (19) فكانت إجابتهم إياه إلى ذلك، موجبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خوف الغدر به وبأصحابه منهم. فكذلك حكم كل قوم أهل موادعةٍ للمؤمنين، ظهر لإمام المسلمين منهم من دلائل الغدر مثل الذي ظهرَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قريظة منها, فحقٌّ على إمام المسلمين أن ينبذ إليهم على سواء، ويؤذنهم بالحرب.
* * *
ومعنى قوله:(على سواء)، أي:حتى يستوي علمك وعلمهم بأن كل فريق منكم حرب لصاحبه لا سِلْم. (20)
* * *
وقيل:نـزلت الآية في قريظة.
* ذكر من قال ذلك:
16221- حدثني محمد بن عمرو قال:حدثنا أبو عاصم قال:حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد:(فانبذ إليهم على سواء)، قال:قريظة.
* * *
وقد كان بعضهم يقول:"السواء "، في هذا الموضع، المَهَل. (21)
* ذكر من قال ذلك:
16222- حدثني علي بن سهل قال:حدثنا الوليد بن مسلم قال:إنه مما تبين لنا أن قوله:(فانبذ إليهم على سواء)، أنه:على مهل =كما حدثنا بكير، عن مقاتل بن حيان في قول الله:بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْمِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، [التوبة:1-2]
* * *
وأما أهل العلم بكلام العرب, فإنهم في معناه مختلفون.
فكان بعضهم يقول:معناه:فانبذ إليهم على عدل =يعني:حتى يعتدل علمك وعلمهم بما عليه بعضكما لبعض من المحاربة، واستشهدوا لقولهم ذلك بقول الراجز:(22)
وَاضْــرِبْ وُجُـوهَ الغُـدُرِ الأعْـدَاءِ
حَــتَّى يُجِــيبُوكَ إلَــى السَّــوَاءِ (23)
يعني:إلى العدل.
* * *
وكان آخرون يقولون:معناه:الوسَط، من قول حسان:
يَـا وَيْـحَ أَنْصَـارِ الرَّسُـولِ ورَهْطِهِ
بَعْــدَ الُمغيَّـبِ فِـي سَـوَاءِ المُلْحَـدِ (24)
بمعنى:في وسط اللَّحْد.
* * *
وكذلك هذه المعاني متقاربة, لأن "العدل "، وسط لا يعلو فوق الحق ولا يقصّر عنه, وكذلك "الوسط"عدل, واستواء علم الفريقين فيما عليه بعضهم لبعض بعد المهادنة، (25) عدل من الفعل ووسط. وأما الذي قاله الوليد بن مسلم من أن معناه:"المهل ",فما لا أعلم له وجهًا في كلام العرب.
--------------------
الهوامش:
(13) انظر تفسير "الخيانة "فيما سلف 13:480 ، تعليق:1 ، والمراجع هناك .
(14) انظر تفسير "النبذ "فيما سلف 2:401 ، 402 7:459 . وفي المطبوعة:"آثار الغدر "، وأثبت ما في المخطوطة ، و "الأمار "و "الأمارة "، العلامة ، ويقال:"أمار "جمع "أمارة ".
(15) انظر تفسير "الخوف "فيما سلف 11:373 ، تعليق:5 ، والمراجع هناك .
(16) في المطبوعة:"آثار الخيانة "، وأثبت ما في المخطوطة ، وانظر التعليق السالف رقم:2 .
(17) في المخطوطة:"وأد "، وبعدها بياض ، صوابه ما في المطبوعة .
(18) في المطبوعة:"ومحاربتهم معه "، وأثبت ما في المخطوطة .
(19) في المخطوطة:"ولم يقاتلوا "، وما في المطبوعة شبيه بالصواب .
(20) انظر تفسير "السواء "فيما سلف 10:488 ، تعليق:2 ، والمراجع هناك .
(21) في المطبوعة:"وقد قال بعضهم "، غير الجملة كلها بلا شيء .
(22) لم أعرف قائله .
(23) كان في المطبوعة:"الغدر للأعداء ". وهو خطأ ، صوابه من المخطوطة و "الغدر "( بضمتين ) ، جمع "غدور "، مثل "صبور "، وهو الغادر المستمرئ للغدر .
(24) سلف البيت وتخريجه وشرحه فيما مضى 2:496 ، تعليق 2 .
(25) في المطبوعة:"واستواء الفريقين "، وفي المخطوطة "واستواء على الفريقين ". وصواب قراءتها ما أثبت ، وهو حق المعنى .