إن الفئة المؤمنة لها قوتان:قوة الإيمان ، والعدد المناسب ، وقوة الألفة فوقهما ، فيكونون بهذه القوة محاربين أشداء ؛ ولذا قال تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ( 65 ) الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ( 66 )
هذا بيان تحذير الله تعالى لنبيه إذ جنحوا للسلم ، فلا تغمد السيوف في أجفانها ، ولا يسترخون ، ويسكنون فإن المشركين إن جنوا للسلم مدة ، وجنح المسلمون استجابة للسلام يكونون على حذر دائم ، فعساهم يأخذون المسلمين على غرة فيجب أن يكون المسلمون على استعداد دائم يستجيبون لكل هيعة ( 1 ){[1186]} ، ويكونون مستعدين للنفير دائما ، كما قال تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ( 71 )} النساء ) . ولذا أمر الله نبيه بأن يبث فيهم روح القتال دفاعا عن الحق ، كما يبث فيهم الإيمان ، فإنه لا بد لهم من شوكة{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} أي حثهم وبث فيهم روح الحمية ، وإعداد العدة والاستعداد للحرب وإن يأخذوا الأهبة للقتال ، ويدربوا أولادهم ، فإن الكفار لا أمان لهم ، ولو جنحوا للسلم ؛ لأن الاستعداد وقاية من أن ينقضوا على المؤمنين انقضاضا .
ولقد كان من الحض على القتال أن يبين لهم أنهم بإيمانهم أشد بأسا ، وأكثر عزما ، فإن كانوا في العدد كثير ، فهم بالإيمان أكثر وأغلب ، وأقوى وأثبت ، وبالصبر والعزيمة أعظم وأشد .
وقوله تعالى:{ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} إلى آخر ما ذكر من أعداد ؛ أهو إخبار من الحكيم الخبير ، ويتضمن الحض على الإيمان والصبر ، أم هو أمر بالثبات مع هذا العدد ، وعلى أنه أمر يكون ما في النص تكليف بألا يفر مائة من ألف ، ولا عشرون من مائة ، فإذا التقى عشرون في سرية بمائة لا يفرون منهم ، ويعودون أدراجهم لمكاثرتهم بالعدد ، بل عليهم أن يقاتلوهم صابرين في قتالهم ، وإذا التقى مائة بألف ، لا يفرون منهم لكثرتهم ، بل يقاتلون مريدين النصر والعزة ، وعندما تكاثر المجوس على المسلمين ، وخاف عمر رضي الله عنه على المسلمين لم يأمرهم بأن يعودوا ، بل اعتزم أن يخرج إليهم ، ويتقدم صفوفهم ، ويذهب للقتال ، واستشار الصحابة في ذلك فمنهم من وافقه ، ولكن عليا اعترض ومنع ، وهو أخبرهم بالجهاد في سبيل الله ، فقال رضي الله عنه:كن قطبا ، واستدر رحى الحرب بالعرب ، فإنك إن خرجت فما تدع وراءك من العورات أشد ، وأما كثرة العدد ، فإنا ما كنا ننتصر بالعدد ، بل بالنصر والمعاونة ) .
هذا على قول من قال:إذ ذكر الأعداء للأمر بألا يكون الفرار من أقل من هذا العدد .
وابتدأ بذكر العشرين ؛ لأن السرية عادة لا تكون في أقل من العشرين .
وقال بعض المفسرين ، والنص يحتملها:إن ذلك للإخبار عن قوة النفوس بالصبر والإيمان ، وأن الواحد بها بعد كعشرة ممن لم يؤتوا الإيمان والصبر وعزة الحق ، ونفوسهم بوار من هذه القوى كلها ، وهذا النحو من القول فيه تثبيت للقلوب ، فإن جنحت فعندها من مدخر من هذه القوى ، ما تقابل بها الخيانة إن كانت ، وإن حاربوا ولم يسالموا ولم يجنحوا إلى سلم – كانت القوى واقفة تدفع الباطل بالحق فإذا هو زاهق وللكافرين الويل مما يصفون ، وإنه إذا كان القول للإخبار ، فإن الأمر يجيء نتيجة للخير ، إذ إن مقتضى إخبار الله المحيط بكل شيء علما بذلك الخبر الذي لا يتطرق إليه الشك – أن يكون الوجوب عليهم بمقدار ما منحهم الله تعالى من هذه القوة التي منحهم الله إياها ، فالوجوب على مقدار الاستطاعة ، والاستطاعة كانت عظيمة ؛ فالواجب عظيم . ينتهي الأمر بأن المؤمنين عليهم أن يعدوا العدة من قوة المادة والدربة وأن يعدوا أقوى عدة ، وهي الصبر والعزيمة والاعتزاز بعزة الله تعالى وعزة الحق .
وهنا أمور تجب ملاحظتها هنا في هذه الآية التي تثبت القلوب:
أولها – أنها تثبت أن المؤمنين إن كانوا أقوياء بالوحدة المؤلفة الجامعة للقلوب والمشاعر ، يكون العشرون غالبين لمأتين ، فإذا كان الرجل بالرجل ، فلقوة النفس والإئتلاف تسعة رجال وحدها ، فيكون الواحد بعشرة ، وبذلك يتبين فضل الصبر والوحدة المؤتلفة التي لا تفرق فيها .
ثانيها – أن الله تعالى وصف العشرين بالصبر ، وترك ذكره في المائة ، وهو ملاحظ فيها ، ولم يذكر اعتمادا على ذكره في الأول ، وذلك شأن الكلام البليغ فكيف يكون الشأن في أبلغ كلام في الوجود .
ثالثها – قوله تعالى في آخر الآية:{ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} وهو وصف أيضا للمأتين ، أي أنهم من الذين كفروا ، وذكر الوصف بالموصول للدلالة على الكفر هو سبب الضعف كما كان الإيمان والصبر هما بسبب القوة فينا ، فعلينا أن ندرع بالصبر والإيمان دائما ، لأنهما قوتنا ، وعزتنا .
وقد علل الله سبحانه هزيمة الكفار بقوله تعالت كلماته:{ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} أي سببا لذلك التفاوت في القوة الذي كان مظهره التفاوت العددي ، بأن كانت العشرون الصابرة تعادل منهم ، السبب في ذلك ( أنهم قوم لا يفقهون ) أي لا يدركون إدراكا ينفد إلى الحقائق ، وإلى لب الأمور ، فإنهم بذلك ضلوا ، فلم ينفذوا إلى الحق فيؤمنوا به ، ولم ينفذوا إلى إدراك قوة الحق فظنوا أنهم يغلبونه بالكثرة الكاثرة ، ولا تغنيهم في الشديدة فتيلا ، ولم ينفذوا إلى سبب الغلب ، فغرهم الغرور .
والله سبحانه وتعالى يعبر عن الجماعة التي يجمعها هوى ( بالقوم ) لأنه لا قوة لهم إلا كونهم قوما ، جمعهم جامع من هوى أو غرور ، وضلال .