ولقد نهى الله تعالى عن الصلاة فيه ، فقال تعالى:{ لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين108} .
النهي للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه عن الصلاة فيه ، وعبر عن الصلاة بالقيام ؛ لأن أداء الصلاة على وجهها إقامة ، ويطلق القيام على الصلاة ، كقولهم يصوم النهار ويقوم الليل ، أي يقوم الليل متهجدا مصليا ، والنهي عن الصلاة فيه أكده الله تعالى بقوله:{ أبدا} ، أي في كل الأحوال ، النهي يفيد عموم الأحوال فلا يكون هناك مسوغ للصلاة فيه .
ولعل ذلك هو الذي جعل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يهدمه ثم يحرقه ، ويجعل موضعه كناسة تلقى فيه القمامة ، إن الصلاة فيه تحقق فيها بعض أغراضهم ، وهي المضارة لغيره من المساجد ، والتفريق بين المؤمنين ووازن سبحانه بينه وبين مسجد غيره ، فقال تعالى:
{ لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه} اللام لام الابتداء وهي تفيد التأكيد ،{ أسس على التقوى} أي وضعت أسسه على التقوى ، أي أنه قام على التقوى ، والوقاية من غضب الله واتقاء عذابه ، وهذا مجاز لإثبات أنه قام على نية طيبة يتقى بها سوء العذاب ، ويرضى الله تعالى ، وإذا كانت الصلاة عبادة في كل دين ، فيجب أن تؤدى في مكان قام على تقوى رب العالمين من أول يوم ، أي من أول يوم كان بعد الهجرة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عندما هاجر ، وانتهى إلى ما يصاقب المدينة فنزل بقباء وأنشأ المسجد فيها ، وقد وصل يوم الإثنين ، وبقى بقباء أربعة ايام الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ثم انتقل إلى المدينة يوم الجمعة ، فيكون منطبقا عليه أنه أسس على التقوى من أول يوم تمت فيه الهجرة ، وأسس على التقوى لأن الذي بناه هو الرسول أولا ، وبنى ابتداء للعبادة ثانيا ، وذلك فضل ثان للمسجد يجعله أحق أن تقوم فيه الصلاة من غيره ، ويلاحظ أنه ذكر فضل هذا المسجد ولم يذكر ما أحاط بالآخر من نيات مناقضة ، إذ إن الآخر أسس ضرارا وكفرا وتفريقا بين المسلمين ، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله- لم يذكر ذلك اكتفاء بما ذكر أولا ، فذكر السوء لا يكرر ، ولأن في ذكر حسنات هذا المسجد ، تعريضا واضحا بسيئات الآخر .
والمسجد عند الأكثرين هو مسجد قباء ، وادعى بعض الرواة أنه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنا نختار ما اختاره الأكثر ؛ لأن مسجد قباء أول مسجد بني بعد الهجرة ، بل أول المساجد بإطلاق ، ومسجد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بني بعده ، ولأن المفاضلة كانت بين مسجد قباء ومسجد الضرار الذي حاولوا به الغض من مقامه ، ومقام الذين بنوه ، وإن الضرار الذي ذكر كان يقصد به مكايدة أهل قباء وذلك ما نراه الحق ، ومسجد الرسول له فضله فوق كل هذا ، فهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال:البيت الحرام ، وبيت المقدس ، ومسجد الرسول .
هذا فضل ذاتي لمسجد قباء ، وله فضل إضافي آخر ، وهو فضل من يصلون فيه ، فإنهم ليسوا منافقين ولا مرائين ، بل أخلصوا دينهم لله تعالى ، ولذا قال فيهم:{ فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين}أي رجال يريدون أن تخلص قلوبهم وتطهر نفوسهم من الرياء والكفر والنفاق ، ويغسلوها من أدران النفوس ، أي يحبون أن يكونوا لله مخلصين له الدين لا أن يكونوا لغيره ، والله يحب هؤلاء المطهرين ، الذين غسلوا أدران قلوبهم .
وقد فسر الزمخشري وغيره الطهارة الحسية والبدنية ، فقد جاء في الكشاف ما نصه:وقيل:لما نزلت مشى رسول الله والمهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس ، فقال صلى الله عليه وسلم:"أمؤمنون أنتم"فسكت القوم ثم أعادها ، فقال عمر:يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم ، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:"أترضون بالقضاء"قالوا:نعم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أتصبرون على البلاء"قالوا:نعم قال صلى الله عليه وسلم:"أتشكرون في الرخاء"قالوا نعم قال صلى الله عليه وسلم مؤمنون ورب الكعبةفجلس ، ثم قال:"يا معشر الأنصار فيما الذي تصنعونه عند الوضوء وعند الغائط"، فقالوا:يا رسول الله نتبع الغائط بالأحجار الثلاثة ، ثم نتبع الأحجار بالماء ، فتلا قوله تعالى:{ فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين} .
ويفهم من هذا أن الطهارة فسرت بالطهارة الحسية ، وأرى أن الطهارة الحسية مفهومة بالبداهة ، وهي تجيء اقتضاء للطهارة المعنوية وكلتاهما مقصودة ،