وقوله:( لا تقم فيه أبدا ) نهي من الله لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ، والأمة تبع له في ذلك ، عن أن يقوم فيه ، أي:يصلي فيه أبدا .
ثم حثه على الصلاة في مسجد قباء الذي أسس من أول يوم بنائه على التقوى ، وهي طاعة الله ، وطاعة رسوله ، وجمعا لكلمة المؤمنين ومعقلا وموئلا للإسلام وأهله ؛ ولهذا قال تعالى:( لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ) والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء ؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"صلاة في مسجد قباء كعمرة ". وفي الصحيح:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور مسجد قباء راكبا وماشيا وفي الحديث:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بناه وأسسه أول قدومه ونزوله على بني عمرو بن عوف ، كان جبريل هو الذي عين له جهة القبلة فالله أعلم .
وقال أبو داود:حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن يونس بن الحارث ، عن إبراهيم بن أبي ميمونة ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"نزلت هذه الآية في أهل قباء:( فيه رجال يحبون أن يتطهروا ) قال:كانوا يستنجون بالماء ، فنزلت فيهم الآية .
ورواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث يونس بن الحارث ، وهو ضعيف ، وقال الترمذي:غريب من هذا الوجه .
وقال الطبراني:حدثنا الحسن بن علي المعمري ، حدثنا محمد بن حميد الرازي ، حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال:لما نزلت هذه الآية:( فيه رجال يحبون أن يتطهروا ) بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عويم بن ساعدة فقال:"ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم ؟ ". فقال:يا رسول الله ، ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه - أو قال:مقعدته - فقال النبي صلى الله عليه وسلم . "هو هذا ".
وقال الإمام أحمد:حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا أبو أويس ، حدثنا شرحبيل ، عن عويم بن ساعدة الأنصاري:أنه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء ، فقال:"إن الله تعالى قد أحسن [ عليكم الثناء] في الطهور في قصة مسجدكم ، فما هذا الطهور الذي تطهرون به ؟ "فقالوا:والله - يا رسول الله - ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود ، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط ، فغسلنا كما غسلوا .
ورواه ابن خزيمة في صحيحه .
وقال هشيم ، عن عبد الحميد المدني ، عن إبراهيم بن إسماعيل الأنصاري:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعويم بن ساعدة . "ما هذا الذي أثنى الله عليكم:( فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) قالوا:يا رسول الله ، إنا نغسل الأدبار بالماء .
وقال ابن جرير:حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، حدثنا محمد بن سعد ، حدثنا إبراهيم بن محمد ، عن شرحبيل بن سعد قال:سمعت خزيمة بن ثابت يقول:نزلت هذه الآية:( فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) قال:كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط .
حديث آخر:قال الإمام أحمد بن حنبل:حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا مالك - يعني:ابن مغول - سمعت سيارا أبا الحكم ، عن شهر بن حوشب ، عن محمد بن عبد الله بن سلام قال:لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني:قباء ، فقال:"إن الله ، عز وجل ، قد أثنى عليكم في الطهور خيرا ، أفلا تخبروني ؟ ". يعني:قوله تعالى:( فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) فقالوا:يا رسول الله ، إنا نجده مكتوبا علينا في التوراة:الاستنجاء بالماء .
وقد صرح بأنه مسجد قباء جماعة من السلف ، رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس . ورواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير . وقاله عطية العوفي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، والشعبي ، والحسن البصري ، ونقله البغوي عن سعيد بن جبير ، وقتادة .
وقد ورد في الحديث الصحيح:أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو في جوف المدينة ، هو المسجد الذي أسس على التقوى . وهذا صحيح . ولا منافاة بين الآية وبين هذا ؛ لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم ، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى ؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده:
حدثنا أبو نعيم ، حدثنا عبد الله بن عامر الأسلمي ، عن عمران بن أبي أنس ، عن سهل بن سعد ، عن أبي بن كعب:أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"المسجد الذي أسس على التقوى مسجدي هذا ". تفرد به أحمد .
حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا وكيع ، حدثنا ربيعة بن عثمان التيمي ، عن عمران بن أبي أنس ، عن سهل بن سعد الساعدي قال:اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال أحدهما:هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الآخر:هو مسجد قباء .
فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه ، فقال:"هو مسجدي هذا "تفرد به أحمد أيضا .
حديث آخر:قال أحمد:حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ليث ، عن عمران بن أبي أنس ، عن سعيد بن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال:تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال أحدهما:هو مسجد قباء ، وقال الآخر:هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هو مسجدي هذا "تفرد به أحمد .
طريق أخرى:قال الإمام أحمد:حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا ليث ، حدثني عمران بن أبي أنس ، عن ابن أبي سعيد ، عن أبيه أنه قال:تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ، فقال رجل:هو مسجد قباء ، وقال الآخر:هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هو مسجدي ".
وكذا رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة ، عن الليث وصححه الترمذي ، ورواه مسلم كما سيأتي .
طريق أخرى:قال أحمد:حدثنا يحيى ، عن أنيس بن أبي يحيى ، حدثني أبي قال:سمعت أبا سعيد الخدري قال:اختلف رجلان:رجل من بني خدرة ، ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال الخدري:هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال العمري:هو مسجد قباء ، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك ، فقال:"هو هذا المسجد "لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال:"في ذاك [ خير كثير] يعني:مسجد قباء .
طريق أخرى:قال أبو جعفر بن جرير:حدثنا ابن بشار ، حدثنا يحيى بن سعيد - حدثنا حميد الخراط المدني ، سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن أبي سعيد فقلت:كيف سمعت أباك يقول في المسجد الذي أسس على التقوى ؟ فقال أبي:أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه في بيت لبعض نسائه ، فقلت:يا رسول الله ، أين المسجد الذي أسس على التقوى ؟ قال:فأخذ كفا من حصباء فضرب به الأرض ، ثم قال:"هو مسجدكم هذا ". ثم قال:[ فقلت له:هكذا] سمعت أباك يذكره ؟ .
رواه مسلم منفردا به عن محمد بن حاتم ، عن يحيى بن سعيد ، به ورواه عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره ، عن حاتم بن إسماعيل ، عن حميد الخراط ، به .
وقد قال بأنه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من السلف والخلف ، وهو مروي عن عمر بن الخطاب ، وابنه عبد الله ، وزيد بن ثابت ، وسعيد بن المسيب . واختاره ابن جرير .
وقوله:( لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له ، وعلى استحباب الصلاة مع جماعة الصالحين ، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء ، والتنزه عن ملابسة القاذورات .
وقد قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن عبد الملك بن عمير ، سمعت شبيبا أبا روح يحدث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح فقرأ بهم الروم فأوهم ، فلما انصرف قال:"إنه يلبس علينا القرآن ، إن أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء ، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء ".
ثم رواه من طريقين آخرين ، عن عبد الملك بن عمير ، عن شبيب أبي روح من ذي الكلاع:أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة ، ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها .
وقال أبو العالية في قوله تعالى:( والله يحب المطهرين ) إن الطهور بالماء لحسن ، ولكنهم المطهرون من الذنوب .
وقال الأعمش:التوبة من الذنب ، والتطهير من الشرك .
وقد ورد في الحديث المروي من طرق ، في السنن وغيرها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء:"قد أثنى الله عليكم في الطهور ، فماذا تصنعون ؟ "فقالوا:نستنجي بالماء .
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا عبد الله بن شبيب ، حدثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز قال:وجدته في كتاب أبي ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس قال:نزلت هذه الآية في أهل قباء . ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:إنا نتبع الحجارة الماء .
ثم قال:تفرد به محمد بن عبد العزيز ، عن الزهري ، ولم يرو عنه سوى ابنه .
قلت:وإنما ذكرته بهذا اللفظ لأنه مشهور بين الفقهاء ولم يعرفه كثير من المحدثين المتأخرين ، أو كلهم ، والله أعلم .