/م107
{ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} هذا نهي للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بالتبع له عن الصلاة فيه مؤكد بلفظ الأبد الذي يستغرق الزمن المستقبل ، وتفسير القيام بالصلاة هنا مروي عن ابن عباس وهو معهود في التنزيل كقوله:{ وقوموا لله قانتين} [ البقرة:238] وقوله:{ قم الليل إلا قليلا} [ المزمل:2] ، والنهي عن القيام المطلق يتضمن النهي عن القيام للصلاة ، ولكنها هي المقصودة بالنهي لطلبهم لها به صلى الله عليه وسلم .
{ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَولِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} اللام الداخلة على المسجد للقسم أو للابتداء .والتأسيس وضع الأساس الأول للبناء الذي يقوم عليه ويرفع ، والمراد منه هنا القصد والغرض من البناء ، والتقوى الاسم الجامع لما يرضي الله ويقي من سخطه ، أي أن مسجدا قصد ببنائه منذ وضع أساسه في أول يوم تقوى الله تعالى بإخلاص العبادة له ، وجمع المؤمنين فيه على ما يرضيه من التعارف والتعاون على البر والتقوى ، هو أحق أن تقوم فيه أيها الرسول مصليا بالمؤمنين من غيره ، ولاسيما ذلك المسجد الذي وضع أساسه على المقاصد الأربعة الخبيثة ، والسياق يدل على أن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم مسجد قباء ، وقد صح في أحاديث رواها الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عنه فأجاب بأنه مسجده الذي في المدينة ، ففي رواية مسلم عن أبي سعيد أنه لما سأله أخذ صلى الله عليه وسلم كفا من حصباء فضرب به الأرض ثم قال: "هو مسجدكم هذا "{[1640]} ، وفي رواية لأحمد عنه وعن سهل بن سعد"هو مسجدي هذا "{[1641]} ، ولفظ الآية لا يمنع من إرادة كل من المسجدين ، لأن كلا منهما قد بناه النبي صلى الله عليه وسلم ووضع أساسه على التقوى من أو يوم شرع فيه ببنائه ، أو من أول يوم وجد في موضعه ( والتحقيق أن"من "تدخل على الزمان والمكان ) .
{ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} هذه جملة وصف بها المسجد الذي أسس على التقوى تؤكد ترجيح القيام مع أهله المطهرين في مقابل أهل مسجد الضرار وهم رجس ، والمعنى:فيه رجال يعمرونه بالاعتكاف وإقامة الصلاة ، وذكر الله وتسبيحه فيه بالغدو والآصال ، يحبون أن يتطهروا بذلك من كل ما يعلق بأنفسهم من درن الآثام ، أو التقصير في إقامة دعائم الإسلام ، كما تطهر المتخلفون منهم عن غزوة تبوك بالتوبة والصدقات ، ومن لوازم عمارته المعنوية والعكوف فيه طهارة الثوب والبدن الحسية ، وطهارة الوضوء والغسل الحكمية ، فالتطهر صيغة مبالغة تشمل الطهارتين النفسية والبدنية ، ووردت الروايات بكل منهما ، ولكل من الاستعمالين موضع من التنزيل ، والجمع بينهما هو الأولى .
{ واللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} أي المبالغين في الطهارة الروحية والجسدية ، وإنما يبالغون فيها إذا أحبوها ، وحينئذ تكمل إنسانيتهم المؤلفة من الروح والجسد .ولا يطيق نجاسة البدن وقذارته إلا ناقص الفطرة والأدب ، وأنقص منه من يطيق خبث النفس بالإصرار على المعاصي والعادات القبيحة ، والتخلق بالأخلاق الذميمة .دع رجس المنافقين المرائين في الأعمال ، الأشحة الباخلين بالأموال .وأما حب الله المستحقين لحبه ، فهو من صفات كماله ، لأن العالم بتفاوت الأشياء في الحسن والقبح ، والكمال والنقص ، يكون من أفضل صفاته حب الجمال والكمال والحق والخير ، وبغض أضدادها وكراهتها ، وحبه اللائق بربوبيته منزه عن مشابهة حبنا ، كتنزه ذاته وسائر صفاته عن مشابهة ذواتنا وصفاتنا ، ولكن يظهر أثره في المحبوبين من عباده في أخلاقهم وأعمالهم ، ومعارفهم وآدابهم ، وأعلاه ما أشار إليه حديث البخاري القدسي:"ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به "{[1642]} الخ .
وقد قال الله تعالى معللا ما وعظ به نساء نبيه صلى الله عليه وسلم من أمره ونهيه لهن بما يليق بمكانتهن من رسوله{ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [ الأحزاب:33] .
وقد فسر بعض المفسرين محبته تعالى للمطهرين برضاه عنهم وإحسانه إليهم ، وهو تأويل فسر به اللفظ ببعض لوازمه ، فإن كان هربا من نظرية من قال من المتكلمين:إن اتصاف الله تعالى بالحب محال ؛ لأنه انفعال نفسي يستحيل على ذي الجلال ، فيجب تفسيره بلازمه المذكور كما قال بعضهم في الرحمة وغيرها من الصفات ، فهو هروب من مذهب السلف الحق ، ووقوع فيما فروا منه بالتأويل ، وهو تشبيه الله بخلقه .إذ يقال لهم:إن الرضا عاطفة نفسية كالحب ، والإحسان عمل بدني كبسط اليد بالبذل ، وهما يسندان إلى الناس فلا يصح أن يوصف بهما الخالق عز وجل ؛ لأنه تشبيه له بالخلق ، كذا العلم والقدرة والمشيئة والكلام ، وغيرهما من صفات الذات ، فإن كلا منها وضعت في اللغات ، لمعانيها المعروفة في المخلوقات ، ككون العلم صور المعلومات المنتزعة منها في الذهن ، وهو بهذا المعنى محال على الله عز وجل .وإذا كان الأمر كذلك فالحق أن يوصف تعالى بما وصف به نفسه على ظاهره بقيوده الثلاثة التي قررها السلف الصالح:أي بلا تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل .فعلمه تعالى انكشاف يليق به ، وحبه معنى نفسي يليق به الخ .
ذكر السيوطي في الدر المنثور عدة روايات حاصلها أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهل قباء عن سبب ثناء الله تعالى عليهم بهذه الآية ، فأجابوه بأنهم يستنجون بالماء ، وفي بعضها أنهم يتبعون الحجارة بالماء ، وذكر أن ابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم وغيرهم رووا عن طلحة بن نافع قال:حدثني أبو أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك رضي الله عنه أن هذه الآية لما نزلت{ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيرا في الطهور فما طهوركم هذا ؟ "قالوا:نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة .قال: "فهل مع ذلك غيره ؟ قالوا:إن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء قال: "هو ذاك فعليكموه ".{[1643]}
أقول طلحة بن نافع هذا ثقة روى عنه الجماعة كلهم ، ولكن رواية البخاري عنه مقرونة بغيره ، وهي أربعة أحاديث رواها عن جابر .ولعله اقتصر عليها ، لقول شيخه علي بن المديني:إنه لم يرو عن جابر غيرها ، أي لم يصح عنده غيرها .وقال أبو حاتم:إنه لم يسمع من أبي أيوب ، ولكنه هنا صرح بالسماع منه فيما رواه من ذكر وغيرهم .
وحديثه هذا على كل حال أقوى من أحاديث سؤال النبي صلى الله عليه وسلم أهل مسجد قباء وجعله الثناء عليهم ، وهو في سؤال الأنصار ، والمسئولون منهم كلهم من سكان المدينة ، وتؤيده الأحاديث الصحيحة الناطقة بأن المسجد الذي أثنى الله عليه وعلى أهله هو مسجده فيها .وقد قلنا:إنه لا مانع من إرادة كل منهما ، وهو أولى من القول بتعارضهما ، كما أن الروايات فيهما لا تنافي إرادة نوعي الطهارة كليهما ، ويؤيد إرادة الطهارة المعنوية قوله تعالى:{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوى مِنَ اللّهِ ورِضْوانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ}