/م107
{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوى مِنَ اللّهِ ورِضْوانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} هذا بيان مستأنف للفرق بين أهل المسجدين في مقاصدهما منهما:أهل مسجد الضرار الذي زادوا به رجسا إلى رجسهم ، وأهل مسجد التقوى وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأنصاره الذين يحبون أكمل الطهارة لظاهرهم وباطنهم ، فاستفادوا بذلك محبة الله لهم ، وورد بصيغة استفهام التقرير ، لما فيه من تنبيه الشعور وقوة التأثير ، والبنيان مصدر كالعمران والغفران ، ويراد به المبني من دار أو مسجد وهو المتعين هنا .وتقدم آنفا معنى التأسيس ، والشفا ( بالفتح والقصر ) الحرف ، والشفير للجرف والنهر وغيره .والجرف ( بضمتين ) جانب الوادي ونحوه الذي يتحفر أصله بما يجرفه السيل منه فيجتاح أسفله فيصير مائلا للسقوط ، والهار الضعيف المتصدع المتداعي للسقوط ، وهذا التعبير يضرب مثلا لما كان في منتهى الضعف والإشراف على الزوال ، وهو من أبلغ الأمثال ، لمنتهى الوهي والانحلال .
المراد بالمثل هنا بيان ثبات الحق الذي هو دين الإسلام وقوته ودوامه ، وسعادة أهله به ، وذكره بأثره وثمرته في عمل أهله وجماعها التقوى ، وبجزائهم عليه وأعلاه رضوان الله تعالى ، وبيان ضعف الباطل واضمحلاله ، ووهيه وقرب زواله ، وخيبة صاحبه وسرعة انقطاع آماله ، وشر أهله المنافقين ، وشر أعمالهم ما اتخذوه من مسجد الضرار للمفاسد الأربعة المبينة في الآية الأولى من هذا السياق .
وقد ذكر في وصف بنيان الفريق الأول -وهم المؤمنون- المشبه دون المشبه به لأنه المقصود بالذات ، ولم يذكر فيما قبله من عملهم إلا المبالغة في الطهارة .وذكر من وصف بنيان الفريق الثاني الهيئة المشبه بها دون المشبه ، لأنه ذكر فيما قبل مقاصدهم منها كلها ، وهذا من دقائق إيجاز القرآن .
نقول في المعنى الجامع بين المشبه به في الفريقين:أفمن أسس بنيانه الذي يتخذه مأوى وموئلا له ، يقيه من فواعل الجو وعدوان كل حي ، وموطنا لراحته ، وهناء معيشته ، على أمتن أساس وأثبته ، وأقواه على مصابرة العواصف والسيول ، وصد الهوام والوحوشهو خير بنياناوراحة وأمانا ؟ أم من أسس بنيانه على أوهى القواعد وأقلها بقاء واستمساكا ، فهي عرضة للانهيار ، في كل لحظة من ليل أو نهار ؟
وأما معنى المشبه المقصود بالذات في كل منهما فيصور هكذا:أفمن كان مؤمنا صادقا يتقي الله في جميع أحواله ، ويبتغي رضوانه في أعماله ، بتزكية نفسه بها ونفع عياله ، - والخلق كلهم عيال الله كما ورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلمأفمن كان كذلك خير عملا ، وأفضل عاقبة وأملا ، وممن نزل فيهم{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} [ الكهف:107] ، أم من هو منافق مرتاب ، مراء كذاب ، يبتغي بأفضل مظاهر أعماله الضرر والضرار ، وتقوية أعمال الكفر وموالاة الكفار ، وتفريق جماعة المؤمنين الأخيار ، والإرصاد لمساعدة من حارب الله ورسوله من الأشرار ، وما يكون من عاقبة ذلك في الدنيا من الفضيحة والعار ، والخزي والبوار ، وفي الآخرة من الانهيار في نار جهنم وبئس القرار ؟
وفي معنى هذا المثل{ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [ الرعد:17] الآية وخلاصة المثلين أن الإيمان الصادق ، وما يلزمه من العلم الصالح ، هو المثمر الثابت ، وأن النفاق وما يستلزمه من العمل الفاسد ، هو الباطل الزاهق ، وهذا المعنى يوافق قول علماء الكون أنه لا يتنازع شيئان في الوجود إلا ويكون الغالب هو الأصلح منهما .ويسمون هذه السنة ( ناموس الانتخاب الطبيعي وبقاء الأمثل ) ، وسبق بيانه في هذا التفسير .
صدق الله العظيم ، فقد ثبت الله المؤمنين بالقول الثابت ، وهداهم بإيمانهم إلى العمل الصالح ، ففتحوا البلاد ، وأقاموا الحق والعدل في العباد ، وأهلك الله المنافقين ، لا يفقهون ولا يعتبرون ، وشر النفاق وأضره نفاق العلماء ، للملوك والأمراء .
{ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي مضت سنته في ارتباط العقائد والأخلاق بالأعمال ، بأن الظالم لا يكون مهتديا في أعماله إلى الحق والعدل ، فضلا عن الرحمة والفضل ، ولا أظلم في الناس من المنافقين{ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ واللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [ آل عمران:86] .