ولقد بين الله سبحانه مآل الذين تخلفوا والذين اتبعوه في ساعة العسرة في غزوة تبوك فقال تعالى:{ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم117} .
كانت غزوة تبوك اختبارا شديدا للمؤمنين وقد تحقق فيها كل البلاء ، وتعلم فيها المؤمنون معنى ، وصدق عليهم قول الله تعالى:{ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين155 الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون156}( البقرة ) .
ولذا ذكرها الله سبحانه وتعالى ببعض التفصيل ، وكرم الذين صبروا ، وعاقب الذين خذلوا وثبطوا ثم تخلفوا ، وعاتب المؤمنين الذين تخاذلوا في وقت الدعوة إليها ، وذلك لأن الصبر في مثل هذه الحال مناط العزة والرفعة ، ويجب أن يكونوا كحال هؤلاء الصابرين ، ليعتزوا بالإسلام ، ويعتز بهم المسلمون في الأرض كلها .
وقد نالهم البلاء كله ، فنالهم الخوف ، ولولا أن الرسول بينهم ، ما استطاعوا الذهاب إلى الرومان ، لقد كان من شأن حرب بني الأصفر أن يلقي في قلوبهم الرعب ، وكان المنافقون بينهم يبثون ذلك الخوف ، ويلقون في النفوس الذعر ونالهم الخوف والجوع ونقص الثمرات ؛ إذ تركوها في المدينة وقد نضجت فلم يحصدوها ، وكان الجوع والعطش وهم سائرون في شقة بعيدة ، جاء في تفسير الحافظ بن كثير في تصوير المشقة في هذه الغزوة التي أرهبت الرومان وكانت إرهاصا بفتح الشام ، فروى عن قتادة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خرج بالمؤمنين في لهبان الحر وأصابهم فيها جهد شديد ، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما . . .وروى عن ابن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة فقال عمر بن الخطاب في وصف ما نالهم:خرجنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد ، فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع من شدة العطش ، وحتى إن الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع ، وحتى إن الرجل لينحر بعيره ، ليعصر فرثه ، فيشربه ، ويجعل ما بقى على كبده ، فقال أبو بكر:يا رسول الله إن الله عز وجل قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا فقال صلى الله عليه وسلم:"تحب ذلك !"قال:نعم ، فرفع يديه ، فلم يرجعها حتى سالت السماء وأهطلت ، ثم سكنت فملئوا ما معهم ، ثم ذهبنا ننظر ، فلم نجدها جاوزت العسكر{[1284]} ، هذا ما جاء في بن كثير ، وجاء في غيره أن الرواحل لم تكن موفورة ، بل كان العشر يعتقبون على راحلة واحدة أو بعير وإن لم يكن راحلة .
هذه هي المشقة أو إشارة إليها وذكرها القرآن ليبين كما ذكرنا من قبل ، كيف يكون الجهاد ، وكيف يكون طلب العزة ، ورفع الذلة ، وكيف يكون الاطمئنان والقوة ، وكيف يكون جسر التعب الذي لا بد لنيل الحياة العزيزة الكريمة من المرور عليه .
يقول تعالى:{ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة} ساعة العسرة أي وقت الشدة في الجهد ، والمال ، والحر الشديد ، وطريق الوصول إلى المكان المنشود ، ومحاربة قوم غلاظ شداد هم الذين كانت لهم السطوة .
وقد أشارت الآيات السابقة إلى أن المهاجرين والأنصار كانوا السابقين ، وإلى أن الذين تخلفوا ، قال سبحانه فيهم ما كان عتبا قاسيا ، فيه عقاب لنفوسهم المؤمنة ، ويبين فيما مضى المخلفين نفاقا وضعفا في الإيمان .
يقول تعالى:لقد تاب الله تعالى على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من أخطائه التي وقع فيها كإذنه للذين استأذنوه من المنافقين ، وهو يعلم كذبهم ، وكذلك اجتهاده في أمر الأسرى فأخذ فداء الأسرى قبل أن يثخن ، ونحو ذلك مما يتعلق بالحروب ، والمعاهدات التي تعهد فيها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، ويبين الله تعالى أنه أخطأ في اجتهاده ، وما كان اجتهاده وتخطئة الله تعالى إلا ليعلم الذين يجيئون من بعده أن الذين يجتهدون بعقولهم يخطئون ، وهذا سيد البشر ، إذا اجتهد فقد يخطئ ، فإن الحكام أيا كان عرضة للخطأ وليس له أن يستبد بفكره ، ويقول مقالة فرعون ما أريكم إلا ما رأى ، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد .
ولقد تعلق الجهلاء من النصارى ، ولو كانوا في مناصب عالية عندهم ، وادعوا أنهم من فلاسفة هذا الزمان ، أن عيسى عليه السلام أفضل من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، لأنه لم ينسب إليه ذنب يغفر ، ومحمد عليه الصلاة والسلام غفر له كما قال تعالى:{ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر . . . .2}( الفت ) ، وقال تعالى:{ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار} فنقول إن ذلك جهل فاحش ، أو هوى فاسد ، أو هما معا .
أولا- لأن التوبة مقام من مقامات العبودية ، والخضوع للذات الألوهية ، ولذا وصف الأتقياء بأنهم التوابون ؛ لأن التوبة تنبعث من إحساس بعلو المقام الإلهي ، وتفتيش النفس ، والبعد عن الغرور ، والشعور بالتقصير نحو الذات العلية ، مهما تكن الأعمال الصالحة ، فالعابد يستصغر ما يفعل في جنب الله مهما يكن كبيرا ، فيتوب عما يتحمل من وجود تقصير أو فوات طاعة واجبة .
وثانيا- أن الأخطاء التي لا يؤاخذ عليها بحسن فرط طاعته ، واستجابته لما يطلبه العلي الأعلى بأنها ما كانت تجوز ، وأنها تخالف الطاعة المطلقة التي هي حق الله على عباده ، وخصوصا الأنبياء الذين هم صفوة خلق الله تعالى .
وثالثا- أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم كان بمقتضى دين الفطرة ، ومعالجة أحوال الناس ، والجهاد في دعوة الحق ، معرضا لأن يخطئ ، لا أن يذنب ، ولفرط طاعته ، واستقامة نفسه يحس بأن خطأه كالذنب ، والرضا به لا يتفق مع مقامه من الله تعالى الذي يخاطبه .
ورابعا- أن التوبة يجب أن تكون خلة ثابتة من خلال المؤمنين ؛ لأنها رجوع إلى الله تعالى ، والمؤمن لا يجوز أن تغره الحياة ، فلا يرجع إلى الله تعالى ، فالرجوع إلى الله بالتوبة يجب ألا يغفل المؤمن عنها ؛ لأنها في ذاتها تجديد للإيمان ، وتذكير بالطاعة المستمرة ، وتوبة محمد سيد البشر دعوة المؤمنين لأن يتوبوا كما قال تعالى:{. . .وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون 31}( النور ) .
وخامسا- أن النفوس لما علت أحست بأن الهفوات كأنها ذنوب ، فتلجأ تائبة بالإنابة إلى ربها ، وهذا ما يقوله العلماء:حسنات الأبرار سيئات المقربين .
وبهذا يتبين أن التوبة ، والغفران والإحساس بالخطأ كأنه ذنب سمات الأبرار والعلو في مقام إدراك معنى الربوبية والعبودية ، وليس نقصا في الذات النبوية ذات أفضل البشر .
وذكر بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المهاجرين ؛ لأنهم الذين كونوا الخلية الأولى للإسلام ، ولأنهم الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ابتغاء نشر الدعوة الإسلامية ، واستمساكا بدينهم ، وكان الأنصار الذين آووا ونصروا ، وإذا كان المهاجرون آزروا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأقاموا معه الدعامة الأولى لبناء الإسلام ، فالأنصار هم الذين عاونوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في إقامة الدولة الإسلامية ، وإذا كان الأولون هم قوم النبي صلى الله عليه وسلم وأقرباءه ، فالأنصار هم أحباؤه الذين أسم لهم وإنه لصادق:"لو سلك الناس شعبا ، وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار"، والذين دعا لهم فقال:"اللهم ارحم الأنصار ، وأبناء الأنصار"{[1285]} ، رحمهم الله ولعن من أذاهم وأبى .
وقد وصف الله المهاجرين والأنصار بوصف يبين حالهم في حال الشديدة التي كانت في تبوك فقال:{ الذين اتبعوه في ساعة العسرة} ، والساعة الجزء من الزمن كالغداة ، والعشي ، والظهيرة ، وهذا وصف كاشف لحالهم ولخبيئه ، فالمهاجرون الذين تركوا الدار والأهل والمال هم الذين اتبعوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في ساعة الشدة ، وكذلك الأنصار الذين آووا ونصروا ، وكانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة هم كذلك الذين اتبعوه في ساعة العسرة ، وقد ذكرنا بعض ما كان من عسرة شديدة ، حتى أن الأعناق كادت تنقطع من شدة العطش لولا دعاء الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم .
وقد صور الله تعالى شدة العسرة على بعض النفوس فقال تعالى:{ من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم} ، أي أن الشدة بلغت أقصاها حتى كادت تزيغ قلوب أي تنحرف وتضل قلوب فريق منهم ، ولكنهم لم يزيغوا ، ولم يضلوا ، بل اصطبروا ، ومرت الشديدة ، وانتهوا إلى الاطمئنان .
وقال تعالى:{ ثم تاب عليهم} الضمير في{ عليهم} إما أن يعود إلى المهاجرين والأنصار ، ويكون تأكيد لقبول توبة الله لهم ، وإما أن يعود على الذين كادت تزيغ قلوبهم ، وهذا ما نميل إليه ، ويكون المعنى إن العسرة كانت شديدة لجوجا ، حتى كادت تزيغ قلوب فريق من هؤلاء المهاجرين والأنصار ولكن الله سلم ، وارتدت أفئدتهم فتاب الله تعالى عليهم بسبب تلك الخواطر التي جاشت ، وكادت تضلهم وإن ذلك من رأفة الله تعالى بهم ، ولذا ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى:{ إنه بهم رءوف رحيم} الضمير يعود على الله جل حلاله ، وهو مذكور قريبا من النص الكريم ، وهو حاضر دائما في القلوب والعقول لمن تذكر ، وتقديم الجار والمجرور في{ بهم} ، دليل على كريم العناية ، يرأف بهم ويرحمهم ، ويختصهم بذلك .