{يَزِيغُ}: الزيغ: ميل القلب عن الحق .
توبة الله على النبي وقومه
وتستمر مسيرة المسلمين ،ويتقدمها النبيّ( ص ) في موقع القيادة ،وتواكبه الطليعة المؤمنة من المهاجرين والأنصار ،وتشتد التحديات ،ويتخلّف البعض من المسلمين عن السير مع القافلة المجاهدة ،وتنطلق الرحمة الإلهيّة لتوحي للسائرين بالرحمة والرضوان على أساس مواقع الثبات في المعركة ،ثم تشمل هؤلاء المتخلفين بالعفو والمغفرة ،بعد إعلانهم الندم على ما قاموا به .وهكذا تلتقي التوبة ،التي لا تتحرك من مواقع المعصية لدى العبد ،بل من مواقع الإحسان والجهاد ،لتأخذ معنى الرحمة في ما تمثله التوبة من رحمةٍ في النتائج ،مع التوبة التي تعيش في ساحة الذنب الذي يتحرك فيه الإنسان في خطّ تراجعيّ سريع ،ليجتمع للفريقينفي توبة الله عليهماللطف الإلهيّ الذي يغمرهم بالرحمة والرضوان ،ليلتقوا في نهاية المطاف أمام الله في سعادة الطاعة وحقيقة العبودية .
{لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} حيث كانوا يعانون أقسى حالات الشدّة والجهد في ما كان يعانيه الجيش الإسلامي المتوجّه إلى غزوة تبوك من الحر والجوع والعطش والعري والركب .قال الرواة: كان العشرة من جيش المسلمين يتعقبون بعيراً واحداً ،يركب الرجل ساعة ثم ينزل ،فيركب صاحبه ،وكان زادهم الشعير المسوّس والتمر المدوّد ،وكان الواحد منهم يلوك التمرة ،حتى إذا وجد طعمها أعطاها صاحبه ،أمّا الماء ،فقد كانوا ينحرون البعير على قلة الراحلة ،ويعتصرون الفرث الذي في كرشه ،ويبلّون به ألسنتهم .ولعلّ هذا الإيحاء بالتوبة على أساس ما تعنيه من رعاية الله للتائب ورحمته ،هو التعبير القرآني للرضا والمحبة واللطف الإلهي للنبي وللمؤمنين معه .
معنى توبة الله على النبي( ص )
وربما كان ذكر اسم النبي( ص ) مع المهاجرين والأنصار من أجل التأكيد على الحضور النبويّ في المجتمع الإسلامي ،باعتباره القيادة التي تحرّك المجتمع وتقوده وتتحمل مسؤوليته ،وتحصل على امتيازات النتائج الإيجابية له .وربما كان هذا أسلوباً قرآنياً في أكثر الموارد التي يتحدث فيها عن المؤمنين في مواقعهم المرضية عند الله{مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} ممن بلغ منهم الجهد والتعب مبلغاً عظيماً حتى بلغوا مرحلة الانهيار وفكروا في الانسحاب والتراجع .ولكن الله ثبّتهم على الإيمان{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} في ما أرادوا أن يمارسوه من انحرافٍ عن خط السير واستسلام لنقطة الضعف ،فشملهم برحمته ولطفه ،ولم يجعل لذلك تأثيراً على موقفهم منه ،لأن الله يعرف كيف يؤدّي الجهد بالإنسان إلى السقوط أمام التجربة الصعبة ،فرأى لهم العذر في ما همّوا به ،وإن لم يفعلوا معصيةً ،ولكنهم عاشوا جوّها الذي يلتقي بها من حيث الروحيّة ،وإن ابتعدوا عنها من حيث المضمون{إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} يشملهم برأفته ،ويرعاهم برحمته ،لأنه اطلع على قلوبهم ،فرأى فيها الإيمان والإخلاص في جميع المجالات .