/م117
{ لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ والْمُهَاجِرِينَ والأَنصَارِ} هذا خبر مؤكد بلام القسم على حرف التحقيق ، بين به تعالى فضل عطفه على نبيه وأصحابه المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار ، وتجاوزه عن هفواتهم في هذه الغزوة وفي غيرها ، لاستغراقها في حسناتهم الكثيرة على كونهم لا يصرون على شيء منها ، وإنما كانت هفواتهم هذه مقتضى الطباع البشرية واجتهاد الرأي فيما لم يبينه الله تعالى لهم بيانا قطعيا يعد مخالفه عاصيا ، وقد بينا في تفسير الآية ( 104 ) أن للتوبة درجات تختلف باختلاف طبقات التوابين الرجاعين إلى الله من كل إعراض عنه .وتوبته تعالى على عباده لها معنيان عطفه عليهم وهذا أعلاهما ، وتوفيقهم للتوبة وقبولها منهم ، وإنما يتوبون من ذنب ، وما كل ذنب معصية لله عزّ وجلّ ، وقد فسر ابن عباس التوبة على النبي صلى الله عليه وسلم هنا بقوله تعالى في سياق هذه الغزوة:{ عفا الله عنك لم أذنت لهم} [ التوبة:43] ؟ وحققنا في تفسيرها مسألة ذنوب الأنبياء وكونها من الاجتهاد الذي لم يقرهم عليه ؛ لأن غيره خير منه ، وأما المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم وهم خلص المؤمنين{ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} فمنهم من كان ذنبه التثاقل في الخروج حتى ورد الأمر الحتم فيه ، والتوبيخ على التثاقل إلى الأرض ، ومنهم من كان ذنبهم السماع للمنافقين فيما كانوا يبغون من فتنة المؤمنين بالقوة والاستدراك وبالفعل .
أما العسرة فهي الشدة والضيق ، وكانت عسرة في الزاد إذا كانت عند انتهاء فصل الصيف الذي نفدت فيه مؤنتهم من التمر ، وأول فصل الخريف الذي بدأ فيه إرطاب الموسم الجديد ، ولا يمكن حمل شيء منه ، فكان يكتفي الواحد منهم أو الاثنان بالتمرة الواحدة من التمر القديم ، ومنه المدود واليابس ، وقد تزود بعضهم أيضا بالشعير المسوس والإهالة الزنخة ، وعسرة في الماء حتى كانوا ينحرون البعير على قلة الرواحل ليعتصروا الفرث الذي في كرشه ويبلوا به ألسنتهم ، وعسرة في الظّهر حتى كان العشرة يعتقبون بعيرا واحدا ، وعسرة في الزمن إذ كان في حمارة القيظ وشدة الحر ، ولعل التعبير بساعة العسرة للتذكير بذلك الوقت العصيب .قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه في ساعة العسرة:عسرة الظّهر وعسرة الزاد وعسرة الماء ، وقال ابن عباس لعمر رضي الله عنهم:حدثنا من شأن ساعة العسرة ، فقال:خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد ، فنزلنا منزلا فأصابنا فيه عطش شديد ، حتى ظننا أن رقابنا ستقطع ، حتى إن كان الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ، ويجعل ما بقي على كبده ، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه:يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا ، فرفع يديه فلم يرجعها حتى قالت السماء ، فأهطلت ثم سكبت فملئوا ما معهم ، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر ، أخرجه ابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي في دلائلها والضياء في المختارة .
{ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} أي اتبعوه من بعد ما قرب أن يزيغ قلوب فريق منهم عن صراط الإسلام ، بعصيان الرسول حين أمر بالنفير العام ، وإذ تثاقل بعضهم عن النفر ووبخهم الله تعالى في الآيات 38 و 39 و 40 ، أو المعنى أنه تاب على المؤمنين كافة من بعد ما كاد يزيغ بعضهم عن الإيمان ، والمراد بهم الذين تخلفوا بالفعل منهم لغير علة النفاق ، وهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، واعترفوا بذنوبهم تائبين فقبل الله توبتهم كما تقدم ، وقال هنا فيهم{ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} وهو الظاهر من العطف بثم ، وأما على التوجيه الآخر فهو تأكيد لما في أول الآية من التوبة على الجميع .
{ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} وهذا تعليل لقبول توبتهم فالرأفة العناية بالضعيف والرفق به والعطف عليه ، والرحمة أعم وأوسع ، وتقدم تحقيق معناها في تفسير الفاتحة .قرأ ( كاد يزيغ ) بالياء التحتانية حمزة وحفص ، وقرأها الباقون ( تزيغ ) بالفوقانية ، والمعنى واحد فيهما إلا أن في هذه من احتمال الإعراب النحوي ما ليس في تلك .