وبعد أن بين الله سبحانه الذين ينخلعون من عبادة الأوثان ، ويتوبون لله ويرجعون إليه ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، بين ما يعامل به الذين يستمرون في غيهم ، وينقضون عهودهم ويطعنون في الدين وما يعاملون به ، فقال تعالى:
{ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ( 12 )} .
النكث:النقض للشيء المفتول بكفه بعد أن أحكم فتله ، وقوله:{ أَيْمَانَهُم} أي عهودهم ، وذكرت الأيمان وهي جمع يمين بدل العهود ؛ لأنها تقوى وتوثق بالأيمان ، ولأن نقض يمين أشد شناعة وأدل على انحلال النفس والذمة ، وبعد الثقة فيهم ، وقال تعالى:{ مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} الذي عاهدوه ووثقوه بأيمان الله . ولم يكتفوا بنكث الأيمان ونقض العهود ، بل طعنوا في دينكم وبسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالطعن في عقيدة التوحيد التي هي من الدين .
وإن موضوع الآية فيه تخريجان أحدهما:أن موضوعها الذين دخلوا في الإسلام ، وارتدوا ونقضوا أيمانهم . ويقول الزمخشري في ذلك:صاروا إخوانا في الدين ثم رجعوا فارتدوا عنه ونكثوا ما بايعوا عليه من الأيمان ، والوفاء بالعهود وقعدوا يطعنون في دين اله ويقولون ليس دين محمد بشيء فهم أئمة الكفر وذوو الرياسة والتقدير فيه .
وعلى ذلك يكون الذين نكثوا هم الذين كانوا قد أعلنوا ثم ارتدوا بعد إسلام .
وإنا نرى أن هؤلاء غير الذين تابوا وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وكانوا إخوانا للمؤمنين ، وإنما موضوع الآية قوم آخرون نكثوا عهودهم التي وثقوها بالأيمان ، ولم يكتفوا بذلك ، بل أخذوا يطعنون في الدين ، ويفترون عليه الافتراءات المختلفة .
وإن هؤلاء يقاتلون ، ولذا قال تعالى:{ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} وأظهر في موضع الإضمار ، ولم يقل فقاتلوهم ، وكان ذلك الإظهار لبيان أن هؤلاء أئمة الكفر وقادته ودعاته ، والمحاربون للدعوة الإسلامية ، وإن ذلك يسوغ قتالهم لمنعهم من أن يفتنوا المؤمنين في دينهم .
وبين سبحانه وتعالى السبب في قتالهم فقال:{ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} ، أي إنهم لا عهود لهم ، ولو وثقوا بالأيمان فلا أيمان لهم ، وقرئ بكسر الهمزة ( لا إيمان لهم ) ( 1 ){[1206]} ، أي أن نفوسهم منحلة لا يجزمون بشيء ولا يذعنون لشيء ، لا بعهد قطعوه على أنفسهم ، ولا غيره ، بل هم جائرون بائرون ليس عندهم شرف الوفاء العربي ، والاحتفاظ بالكلمة .
ثم قال تعالى:{ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} ، أي رجاء أن ينتهوا عن غيهم ، ويقمعهم إرهاب السيف ، ومن لم تقنعه الحجة والبرهان والآيات تتلوها الآيات ، فالحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس .
هذا وقد استنبط الفقهاء من هذه الآية بأن الذمي أو الحربي إذا طعن في الإسلام يقتل ، فليعتبر الذين حماهم الإسلام من ذل الرومان ، وقد دأبوا على الطعن في النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والقرآن والإسلام حتى صار الإسلام غريبا في بلاده ، اللهم هب للمسلمين حاكما ينفذ القرآن ، وقد كان الصحابة يقتلون من يسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولو بالتعريض .
يروى في ذلك أن رجلا في مجلس علي كرم الله وجهه قال:ما قتل كعب ابن الأشرف إلا عذرا ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوصى بقتله فأمر عليا بضرب عنق قائل ذلك القول .
وقاله آخر في مجلس معاوية فما فعل شيئا ، فقام محمد بن سلمة فقال:أيقال هذا في مجلسك وتسكت ! ! ، والله لا أساكنك تحت سقف أبدا .
ولا عجب ، فعلي فارس الإسلام ، وقامع الكفر ، ومعاوية الطليق ابن الطليق ، وقد ابتدأت غربة الإسلام في عهده ، اللهم أعز الإسلام وآواه بعد غربته .