هذا خط العلم في الرسالة المحمدية ، والجهاد ماض في طريقه إلى يوم القيامة ، ولذا جاء بعد آية التفقة في الدين آية الجهاد فقال تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين 123} .
نداء إلى الذين آمنوا يشير بهذا النداء إلى أن الجهاد في سبيل الله تعالى ثمرة الإيمان ، والتقاعس عن القتال يكون من ضعف الإيمان ، أو مرض القلوب ، وأمر الله تعالى بقتال الذين يلون أرض الإسلام سواء أكان المؤمنون بالمدينة أم أقاموا في أرض أخرى ، فالأمر أمر عام بقتال الذين يصاقبونهم ، لتكون العلاقة بينهم حربا واضحة ، أو عهدا وفيا ، أما أن تكون العلاقة علاقة من يتربص بالآخر ، وينتهز الفرصة ، قاتلوا الذين يلونكم ، ثم الذين يلونهم إن لم يرضوا بالعهد ، وهكذا كما ابتدأ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، فأنذر عشيرته الأقربين ثم صدع بأمر ربه ، ولما هاجر قاتل قريشا ، ثم قاتل العرب أجمعين لما نزعوا عن قوس واحدة ، قاتل المشركين كافة كما يقاتلونه كافة ، ولما ابتدأ يقاتل خارج الجزيرة العربية ابتدأ بالرومان ؛ لأن واليهم قتل من أسلم من أهله ، ولأنهم أقرب إلى المدينة من الفرس ، ولأنهم كانوا يمالئون اليهود ، ونصارى العرب ، ولأنهم أهل كتاب ، ولأنهم في أرضهم بيت المقدس ، مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولأنه يجب أن يتحرر من أهل الكفر كما تحرر البيت الحرام من الشرك ، ولأنهم المسلمون وهم ورثة الأنبياء أجمعين ، والقوامون على الرسالة الإلهية من بعدهم .
وقال تعالى:{ قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة} والأمر هنا في معنى وأغلظوا عليهم ، ولكن قوله تعالى:{ وليجدوا فيكم غلظة}أبلغ لأن مؤاده أن يكونوا كلما راموكم بسوء وجدوا فيكم غلظة فلا يفكرون في أن يرموا بسوء ، والغلظة معناها الشدة والقوة ، والغلظة تجمع الجرأة ، وعدم التواني ، والصبر ، والمبادرة ، والعنف في القتال من غير اعتداء فيه ، وألا تأخذهم بهم رأفة في دين الله تعالى .
وكانت الغلظة في قتال الذين يلونهم ، ليأمنوا شرهم ، وليرهبوهم ، ولكيلا يتمكنوا من الاعتداء إن فكروا فيه ، أو أرادوهم لأنهم ما داموا لم يعاهدوا عهدا وفيا ، فإن شرهم متوقع ، ودفع الشر قبل أن يأتي من شأن الحذرين ، والله تعالى يقول:{. . . .خذوا حذركم . . . .71} ( النساء ) ، والقتال أنفى للقتال ، وأبعد عن الاعتداء ، وخير الدفاع ما يكون هجوما .
وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى:{ أن الله مع المتقين} إن الله يحب الذين يتقون عذابه ، ويتقون الشر قبل وقوعه ولا ينتظرونه حتى يقع ، فإن وقع صعب دفعه ، والذين يتقون الاعتداء ، وكان ختم الله تعالى الآية بذلك لهذه المعاني التي أشرنا إليها ، ولتحريض المؤمنين على اتقاء الاعتداء ما تمكنوا منه .
وقوله:{ أن الله مع المتقين} ، أي هو مصاحب لهم ، فلا يقع عليهم ، وهو قريب منهم ينصرهم ويعزهم ، ولا يمكن عدوا منهم ، وقد أكد سبحانه أنه مع المتقين بالجملة الاسمية ، وبإن الدالة على التوكيد ، وبتصدير القول بلفظ الجلالة الذي يربي في النفس المهابة من الله ومخافته .