بعد أن لام الله الذين يقعدون عن الجهاد ، بين الله تعالى مع نبيه أمر بالجهاد فقال تعالى:
{ انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( 41 )} .
أكثر الرواة على أن هذه الآية سبقها في غزوة تبوك التي خرج بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الروم ، وقد أراد أن يخرج من الغزوة بعدد كبير ؛ لأنهم كانوا في مؤتة التي كان فيها حملة الراية زيد بن حارثة ، وجعفر بن أبي طالب ، وعبد الله بن رواحة وقتلوا جميعا ، وجاء خالد بن الوليد فأخذ يتراجع بجيش المسلمين ، وكان عدد جيشه نحوا من ثلاثة آلاف بجوار مائتي ألف من الروم ، ومن استخدموهم من العرب فكانت المهارة في التراجع غير منهزم .
فلما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يعيد الكرة على الروم لكيلا يطمعوا في المسلمين ، ويستصغروا أمرهم كما هو الشأن في استصغارهم أمر العرب ، ولأنهم قتلوا من اسلم من أهل الشام ليفتنوهم عن دينهم ، وما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليسكت عن فتنة المؤمنين ، وهو قادر على منعها .
كانت غزوة تبوك هي الردع للروم ، لكيلا يضطهدوا المؤمنين في أرضهم ، ولكيلا يتخذوا أهل الحق خولا لهم ، وأراد النبي أن يكون العدد كثيرا ، أو أراد الله تعالى له ذلك .
ولذا دعا الجميع أن ينفروا ؛ لأن قضية العرب أمام الرومان ، فقال تعالى:{ انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً} أي انفروا جميعا ، ولا فرق بين غني حمله خفيف ، أو فقير مثقل بالعلية والأولاد ، ولا فرق بين شاب وشيخ ، ولا فرق بين حال منشط أو مكره ، وحال إقبال وحال إثقال واستكراه ، وحال خفة إلى العمل ، وإثقال في التحرك إليه .
انفروا جميعا غير متعللين بأية علة ، فإنها قضية الإسلام والعرب ، فإما أن يذلوا للرومان أو يعتزوا بالإسلام,
ثم قال تعالى:{ وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} والجهاد بالمال يكون بالإنفاق على الحرب ، وعلى أدواته ، وعلى إعانة من لا مال لهم ، والجهاد بالنفس بحمل السيف ، والقتال ، وإعانة المقاتلين ، ويروى أن شيخا أثقلته السنون ذهب إلى الحرب ، فثبطه ضعف الشيخوخة ، فقال:إن لم أقاتل عاونت المقاتلين ، وأغنيهم عن بعض ما يحتاجون إليه .
والجهاد بالنفس يتناول تعويدها الصبر وتحمل المكاره .
وقال تعالى:{ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي الخروج بنفير عام ، وغير معوقين بأثقال أو بأي سبب من الأسباب{ خَيْرٌ لَّكُمْ} لأنه العزة ، والعزة خير من الذلة ، وفيه إرضاء الله وإرضاء الله خير كله ؛ ولأنه الرفعة ، ولأنه الكرامة ، والكرامة خير من المهانة ، وذكر الخطاب في الإشارة إلى الجمع للنص على العموم الخطاب بالنفير حتى يعم الجميع بالخطاب نصا{ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} الخير من الشر ، فالموت في عزة خير من الحياة في ذلة ، والموت مع كرامة الجهاد خير من الحياة مع ذلة الكفر والاستسلام والمهانة .