قال سفيان الثوري ، عن أبيه ، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح:هذه الآية:( انفروا خفافا وثقالا ) أول ما نزل من سورة "براءة ".
وقال معتمر بن سليمان ، عن أبيه قال:زعم حضرمي أنه ذكر له أن ناسا كانوا عسى أن يكون أحدهم عليلا أو كبيرا ، فيقول:إني لا آثم ، فأنزل الله:( انفروا خفافا وثقالا ) الآية .
أمر الله تعالى بالنفير العام مع الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - عام غزوة تبوك ، لقتال أعداء الله من الروم الكفرة من أهل الكتاب ، وحتم على المؤمنين في الخروج معه على كل حال في المنشط والمكره والعسر واليسر ، فقال:( انفروا خفافا وثقالا )
وقال علي بن زيد ، عن أنس ، عن أبي طلحة:كهولا وشبابا ما أسمع الله عذر أحدا ، ثم خرج إلى الشام ، فقاتل حتى قتل .
وفي رواية:قرأ أبو طلحة سورة براءة ، فأتى على هذه الآية:( انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ) فقال:أرى ربنا يستنفرنا شيوخا وشبابا جهزوني يا بني . فقال بنوه:يرحمك الله ، قد غزوت مع رسول الله حتى مات ، ومع أبي بكر حتى مات ، ومع عمر حتى مات ، فنحن نغزو عنك . فأبى ، فركب البحر فمات ، فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد تسعة أيام ، فلم يتغير ، فدفنوه بها .
وهكذا روي عن ابن عباس ، وعكرمة وأبي صالح ، والحسن البصري ، وشمر بن عطية ، ومقاتل بن حيان ، والشعبي وزيد بن أسلم:أنهم قالوا في تفسير هذه الآية:( انفروا خفافا وثقالا ) قالوا:كهولا وشبابا ، وكذا قال عكرمة والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وغير واحد .
وقال مجاهد:شبابا وشيوخا ، وأغنياء ومساكين . وكذا قال أبو صالح ، وغيره .
وقال الحكم بن عتيبة:مشاغيل وغير مشاغيل .
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله تعالى:( انفروا خفافا وثقالا ) يقول:انفروا نشاطا وغير نشاط . وكذا قال قتادة .
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد:( انفروا خفافا وثقالا ) قالوا:فإن فينا الثقيل ، وذا الحاجة ، والضيعة والشغل ، والمتيسر به أمر ، فأنزل الله وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا خفافا وثقالا وعلى ما كان منهم .
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري أيضا:في العسر واليسر . وهذا كله من مقتضيات العموم في الآية ، وهذا اختيار ابن جرير .
وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي:إذا كان النفير إلى دروب الروم نفر الناس إليها خفافا وركبانا ، وإذا كان النفير إلى هذه السواحل نفروا إليها خفافا وثقالا وركبانا ومشاة . وهذا تفصيل في المسألة .
وقد روي عن ابن عباس ، ومحمد بن كعب ، وعطاء الخراساني وغيرهم أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ) وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله .
وقال السدي:قوله:( انفروا خفافا وثقالا ) يقول:غنيا وفقيرا ، وقويا وضعيفا فجاءه رجل يومئذ ، زعموا أنه المقداد ، وكان عظيما سمينا ، فشكا إليه وسأله أن يأذن له ، فأبى ، فنزلت يومئذ ( انفروا خفافا وثقالا ) فلما نزلت هذه الآية اشتد على الناس شأنها فنسخها الله ، فقال:( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ) [ التوبة:91] .
وقال ابن جرير:حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، حدثنا أيوب ، عن محمد قال:شهد أبو أيوب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدرا ثم لم يتخلف عن غزاة للمسلمين إلا وهو في آخرين إلا عاما واحدا قال:وكان أبو أيوب يقول:قال الله:( انفروا خفافا وثقالا ) فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا .
وقال ابن جرير:حدثني سعيد بن عمر السكوني ، حدثنا بقية ، حدثنا حريز ، حدثني عبد الرحمن بن ميسرة ، حدثني أبو راشد الحبراني قال:وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص ، وقد فضل عنها من عظمه ، يريد الغزو ، فقلت له:لقد أعذر الله إليك فقال:أتت علينا سورة "البحوث "( انفروا خفافا وثقالا )
وبه قال ابن جرير:حدثني حيان بن زيد الشرعبي قال:نفرنا مع صفوان بن عمرو - وكان واليا على حمص - قبل الأفسوس ، إلى الجراجمة فلقيت شيخا كبيرا هما ، وقد سقط حاجباه على عينيه ، من أهل دمشق ، على راحلته ، فيمن أغار . فأقبلت إليه فقلت:يا عم ، لقد أعذر الله إليك . قال:فرفع حاجبيه فقال:يا ابن أخي ، استنفرنا الله خفافا وثقالا إنه من يحبه الله يبتليه ، ثم يعيده الله فيبقيه وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ، ولم يعبد إلا الله ، عز وجل .
ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله ، وبذل المهج في مرضاته ومرضاة رسوله ، فقال:( وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) أي:هذا خير لكم في الدنيا والآخرة ، ولأنكم تغرمون في النفقة قليلا فيغنمكم الله أموال عدوكم في الدنيا ، مع ما يدخر لكم من الكرامة في الآخرة ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:وتكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة ، أو يرده إلى منزله نائلا ما نال من أجر أو غنيمة .
ولهذا قال تعالى:( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) [ البقرة:216] .
ومن هذا القبيل ما رواه الإمام أحمد:
حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن حميد ، عن أنس ؛ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل:أسلم . قال:أجدني كارها . قال:أسلم وإن كنت كارها .