تخاذل ضعاف الإيمان والمنافقين
قال الله تعالى:
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 42 ) عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ( 43 ) لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ( 44 ) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ( 45 ) .
مع الدعوة القاطعة إلى النفير العام كان ثمة متخاذلون مختلفون عن الجهاد ، وذلك لأنه شاق عليهم ، يرونها عيشة راضية على أي حال كانت هذه الحياة أوفى عزة تنال بالجهاد أم في ذلة ترضى بالهون وأدنى معيشة في الحياة .
وقد بين سبحانه أنهم يريدونها رخاء سهلا ، فقال سبحانه .
{ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} .
( العرض ) هو المتاع ، أو ما يعرض من منافع الدنيا ، و ( القريب ) السهل الذي يجيء من غير مشقة وإجهاد ، و ( السفر القاصد ) السهل القريب الذي لا مشقة في السير فيه ولا تعب ، و ( الشقة ) المسيرة الشاقة المجهدة ، أو الأمر الشاق في نفسه .
و المعنى ( والله ) إنك لو دعوتهم في هذا النفير العام الذي يجب ألا يختلف عنه أحد من أهل الإيمان والإخلاص – إلى عرض من أعراض الدنيا قريب أو مال قريب ، أو كان السفر قاصدا سهلا وقريبا لاتبعوك ؛ لأنهم يريدون الدعة والاستنامة إلى الراحة وأن يرضوا بأدنى الحياة ذليلة أو عزيزة في كرامة أو مهانة .
في قوله تعالى:{ لَوْ كَانَ عَرَضًا} فاعلها ضمير يعود إلى النفير المفهوم من قوله تعالى:{ خفافا وثقالا} ، والكلام يفيد أنهم لم يجيبوا دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى النفير العام ، وتخلفوا مع أن النفير العام لا يفرق بين ذي عذر ، وغيره ما دام قادرا .
ويبين الله سبحانه وتعالى سبب تخلفهم ، وهو أن الشقة الشديدة بعدت عليهم ، والنفير فيه بعد الطريق ومشقة شديدة .
وإن الاعتذار هو حجة الضعيف الذليل ، ووثقوا الاعتذار بالأيمان الكاذبة ، ولذا قال سبحانه وتعالى:{ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} .
( السين ) لتأكيد حلفهم بالله ، والحلف في هذه الحال يتضمن الاستعانة بالله تعالى مع كذبهم ، وذلك كفر وبهتان على الله ، وقوله:{ لَوِ اسْتَطَعْنَا} مقولة لقول محذوف تقديره قائلين:{ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} ، وهي مضمون الحلف أو المقسم عليه ، وقد أكدوا كذبهم بهذه اليمين الفاجرة ، ليخفوا السبب الحقيقي ، وهو الجبن ، وضعف الإيمان ، أو النفاق الذي أفسد قلوبهم وأضل عقولهم ، وقد بين سبحانه فجورهم في هذه اليمين ، فقال تعالى:والله يعلم أن مغبته تخلفهم فقال:{ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} ، أي يهلكون أنفسهم بهذه اليمين الكاذبة ؛ لأنها تفسد نفوسهم وأي هلاك أشد من فساد النفس ، وضعف إيمانها ، وإنهم بتخلفهم يكشفون عن ضعف مزر ، وإنهم فوق ذلك لفساد تفكيرهم ألقوا بأيديهم إلى الذلة ، إذ استبدلوا بعزة الجهاد ذل الاستخذاء .
وقد أكد الله سبحانه وتعالى كذبهم في قوله تعالت كلماته بقوله:{ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} ، أولا بذكر{ يعلم} فما يعلمه الله صادق لا محالة ، وثانيا:بالجملة الاسمية ، وثالثا:[ ( إن ) ، ورابعا:باللام في لكاذبون . قبح الله الجبن ، وضعف الإيمان والنفاق ، فإنها أدواء الأمم بها تذهب عزتها ، وتضرب عليها الذلة .
لقد اعتذروا بانتحال أعذار واهية ، فأذن لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وما كان له أن يحكم بظواهر ما يقولون ، ولأنه لا فائدة في أن يكون في الجيش متخاذلين ، يكون ذريعة للفشل في صفوفه ، ولكن الله يعلم إنهم لن يخرجوا إذا لم يأذن لهم النبي بالتخلف ، فيظهر أعذارهم ، ويكشف أمرهم ، ولذا عتب على رسوله إذ قبل عذرهم ، فقال تعالى كلامه:
{ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ( 43 )} .