استئناف لابتداء الكلام على حال المنافقين وغزوة تبوك حين تخلّفوا واستأذن كثير منهم في التخلّف واعتلُّوا بعلل كاذبة ،وهو ناشئ عن قوله:{ ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض}[ التوبة: 38] .
وانتُقل من الخطاب إلى الغيبة لأنّ المتحدّث عنهم هنا بعض المتثاقلين لا محالة بدليل قوله بعد هذا{ إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم}[ التوبة: 45] .ومن هذه الآيات ابتدأ إشعار المنافقين بأنّ الله أطْلَع رسوله صلى الله عليه وسلم على دخائلهم .
والعَرَض ما يعرض للناس من متاع الدنيا وتقدّم في قوله تعالى:{ يأخذون عرض هذا الأدنى} في سورة الأعراف ( 169 ) وقوله:{ تريدون عرض الدنيا} في سورة الأنفال ( 67 ) والمراد به الغنيمة .
والقريب: الكائن على مسافة قصيرة ،وهو هنا مجاز في السهْل حصولُه .{ وقاصدا} أي وَسطاً في المسافة غير بعيد .واسم كان محذوف دلّ عليه الخبر: أي لو كان العرض عرضاً قريباً ،والسفر سفراً متوسّطاً ،أو: لو كان ما تدعوهم إليه عَرضاً قريباً وسفراً .
والشُّقة بضمّ الشين المسافة الطويلة .
وتعدية{ بعدت} بحرف ( على ) لتضمّنه معنى ثقلت ،ولذلك حسن الجمع بين فعل{ بعدت} وفاعله{ الشقة} مع تقارب معنييهما ،فكأنّه قيل: ولكن بعد منهم المكان لأنّه شُقّة ،فثقل عليهم السفر ،فجاء الكلام موجزاً .
وقوله:{ وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم} يؤذن بأنّ الآية نزلت قبل الرجوع من غزوة تبوك ،فإنّ حلفهم إنّما كان بعد الرجوع وذلك حين استشعروا أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام ظانٌ كذبَهم في أعذارهم .
والاستطاعة القدرة: أي لسنا مستطيعين الخروج ،وهذا اعتذار منهم وتأكيد لاعتذارهم .
وجملة{ لخرجنا معكم} جواب{ لو} .
والخروج الانتقال من المقرّ إلى مكان آخر قريب أو بعيد ويعدّى إلى المكان المقصود ب ( إلى ) ،وإلى المكان المتروك ب ( مِن ) ،وشاع إطلاق الخروج على السفر للغزو .وتقييده بالمعية إشعار بأنّ أمر الغزو لا يهمّهم ابتداءً ،وأنّهم إنّما يخرجون لو خرجوا إجابة لاستنفار النبي صلى الله عليه وسلم خروج الناصر لغيره ،تقول العرب: خرج بنو فلان وخرج معهم بنو فلان ،إذا كانوا قاصدين نصرهم .
وجملة{ يهلكون أنفسهم} حال ،أي يحلفون مُهلكين أنفسهم ،أي موقعينَها في الهُلْك .والهُلْك: الفناء والموتُ ،ويطلق على الأضرار الجسيمة وهو المُناسب هنا ،أي يتسبّبون في ضرّ أنفسهم بالأيمان الكاذبة ،وهو ضرّ الدنيا وعذاب الآخرة .
وفي هذه الآية دلالة على أنّ تعمد اليمين الفاجرة يفضي إلى الهلاك ،ويؤيّده ما رواه البخاري في كتاب الديات من خبر الهذليين الذين حلفوا أيمان القسامة في زمن عُمر ،وتعمّدوا الكذب ،فأصابهم مطر فدخلوا غاراً في جبل فانهجم عَليهم الغار فماتوا جميعاً .
وجملة{ والله يعلم إنهم لكاذبون} حال ،أي هم يفعلون ذلك في حال عدم جدواه عليهم ،لأنّ الله يعلم كذبهم ،أي ويُطلِع رسوله على كذبهم ،فما جنوا من الحلف إلاّ هلاك أنفسهم .
وجملة{ إنهم لكاذبون} سدّت مسدّ مفعولي{ يعلم} .