{ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ )
هؤلاء المنافقون الذين يذكرهم الله في هذه الآيات قد اعتزموا القعود وعدم الخروج ، ضعفا وجبنا ، وليفتوا في عضد أهل الإيمان . وعن مجاهد:( نزلت هذه الآيات في أناس استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا فيما بينهم . فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا ، فهم قاعدون في الحالين ، فكان الإذن ساترا لحالهم من قصد التخلف في الحالين ، ولذا عاتب الله نبيه على الإذن الذي ستر حالهم ، ومقصدهم الخبيث ، وقعودهم الذليل ، فقال الله تعالى:{ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} وقالوا إن هذا خطأ وقع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاتبه الله تعالى عليه في ألطف عبارة عتاب ، فقد ابتدأ قبل بيانه وجب العتاب ( بذكر العفو ) ، ثم ذكر موضع العتاب ؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اجتهد في أمر قد أعطى حق الاجتهاد فيه ، وهو تدبير الحروب ، وتعرف أنجح الخطط فيها ، وخيرها وصولا إلى الغاية ، وقد رأى أن قعودهم خير من أن يكونوا معهم ، ويهموا بالفشل ، والمعركة قائمة ، ولكن الله تعالى ينبه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلى أمر لا يعلمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو أنهم لن يخرجوا والله يعلم ذلك .
والنص الكريم هنا فيه عتاب على الإذن ، وقد أجيز الإذن عند الاستئذان في آية أخرى فقال تعالى:{ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإن استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم لله إن الله غفور رحيم ( 62 )} ( النور ) .
وموضوع الآيتين مختلف ، فالآية الكريمة التي نتكلم في معناها موضوعها المنافقون وضعفاء الإيمان ، أما موضوع آية سورة النور فمؤمنون بالله ورسوله ، وأجابوا الأمر الجامع للمؤمنين وهو الجهاد ، واستئذانهم كان لبعض شأنهم كاستئذان ذي النورين عثمان بن عفان في التخلف عن غزوة بدر الكبرى لبعض شأنه ، وقوله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عذره ، وإذنه له في التخلف .
وموضوع العتاب بينه الله تعالى بقوله:{ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} وهو استفهام للاستنكار بمعنى النفي ، أي لا سبب للإذن ؛ لأنهم كانوا قاعدين لا محالة ، فالنص ليس فيه استفهام عن سبب الخروج ، ولكن نفى مع العتاب لأن يكون ثمة مسوغ للإذن ، ولذا لم يقل سبحانه ، وله المثل الأعلى في الكلام المعجز ، ( لماذا ) ؛ لأن ذلك يكون نصا في السؤال عن المسوغ ؟ .
وإن ذلك الإنكار كان لعدم الانتظار حتى تتبين حالهم الحقيقية ، وهو أنهم قاعدون ، ولذا قال تعالى:{ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} أي أنه كان يجب الانتظار ، وألا تسارع بالإذن حتى تتبين حالهم ، وينكشف أمرهم . والنص الكريم ، يومئ إلى أن الذين أذن لهم في التخلف كان منهم صادقون في أعذارهم ، كبعض الفقراء الذين لا يجدون ما يحملهم في ذلك السفر البعيد الشقة الشديد المشقة ، وهؤلاء تبين صدقهم ، والمنافقون تعلم كذبهم علما يقينيا ، ووصفهم سبحانه بقوله تعالى:{ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} الذين صار الكذب وصفا لهم وشأنا من شئونهم ، كالمنافقين ، فإن الاتصاف بالكذب يلازم النفاق ولا يفترقان .