معنى العفو عن النبي
{عَفَا اللَّهُ عَنكَ} وهذا أسلوبٌ في العتاب لا يعنف في المواجهة ،بل يرقّ ليخفّف من وقع الخطأ ،انطلاقاً من عدم اطّلاعه على مواقفهم الحقيقيّة مما يؤدي إلى تصديقهم في ما يقولون أو حملهم على الصحة ،أو من سعة صدره التي تدفعه إلى عدم إحراج هؤلاء في موقفهم .وقد يثار في هذا المجال موضوع العصمة ،لأن العفو ،في ما توحي به الكلمة ،يفرض أن هناك ذنباً يحتاج صاحبه إلى العفو عنه ،ولكن الموضوع ليس كذلك ،لأن مثل هذه الكلمة تستعمل في مقام العتاب الخفيف الذي يكشف عن طبيعة الخطأ غير المقصود للتصرّف ،كما أن الحادثة لا تحمل في داخلها أيّة حالةٍ من حالات الذنب ،فالنبيّ يملك أمر الحرب ،فيأذن لمن يشاء بالخروج أو لا يأذن ،فليس للمسألة واقعٌ خارج نطاق إرادته ،وليست هناك أوامر إلهيّة في مسألة خروج هؤلاء وعدم خروجهم ،ليكون تصرّفه( ع ) مخالفةً لها ،بل كل ما هناك أن الله أراد أن يضع القضية في نصابها الصحيح ،من المصلحة الغالبة في ترك الإذن لهم ،ليفتضح أمرهم ويتبيّن زيفهم بشكل واضح ،فيتعرّف المسلمون على حقيقتهم ،فيرفضوهم من موقع الحقيقة الداخلية التي تنكشف من خلال تصرّفاتهم ،فالمسألة تدخل في دائرة مخالفة ما هو الأولى في التصرف ،وليس في ذلك انتقاصٌ من عصمته وانسجامه مع الخطّ الذي يريد الله له أن يسير فيه ،فقد ترك الله للنبي( ص ) مساحةً يملك فيها حريّة الحركة من خلال ما يدبِّر به أمر الأمة بالوسائل العادية المألوفة التي قد تخطىء في بعض مجالاتها ،لا بالوسائل الغيبيّة التي لا يملكها بطريقةٍ ذاتيّة ،لم يكشفها الله له بشكلٍ مطلق ،تماماً كما هي الحال في ممارسته القضاء بين الناس حيث قال: «إنما أقضي بينكم بالأيمان والبيّنات » .
معنى خطأ النبي
وليست هناك مشكلة أن يقع الخطأ ،في ما هو الواقع في رصد الأشياء الخفيّة من خلال غموض الموضوع لعدم وضوح وسائل المعرفة لديه ،ما دام الغيب محجوباً عنه ،إلاّ في ما أوحى به الله إليه من أسرار علمه .وهذا ما أراد القرآن تأكيده في أكثر من آية ،في توضيحه لكثير من حقائق الأمور بعد وقوعها وتحرُّكها في دائرة خلاف الأولى ،في ما كان وجه الصلاح غامضاً فيه من جهة ظواهر الأشياء ،كما في هذه المسألة التي أراد الله أن يوحي من خلالها بالحقيقة إلى نبيّه ،الذي أذن لهم في عدم الخروج انطلاقاً من سموّ أخلاقه وسعة صدره ومواجهته الحالة بالرفق واللين ،من خلال ما حدثنا الله به عن أسلوبه في الحياة .ولكن القوم لم يكونوا بالموقع الذي يستحقون فيه ذلك ،وهكذا كان خطابه لنبيّه بأسلوب العتاب المحبّب{لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ}َفي ترك الخروج ،فقد اعتبروا ذلك حجّة لهم أمام المسلمين الآخرين في تأكيد صدقهم في الإيمان ،وانسجامهم مع خط الطاعة لله وللرسول ،فهم عندما يتخلَّفون ،لا ينطلقون في ذلك من موقف ضعفٍ في الإيمان ،بل من موقف رخصةٍ لهم في ذلك .وفي ضوء هذا ،لم يكن هناك مجالٌ لظهور نفاقهمفي مواقع التمايز بين الصادقين والكاذبينأمام الملأ كافة ،{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} من موقع التجربة الحيّة أمام الأوامر الحاسمة التي لا عذر لأحد في مخالفتها في ما توحي به من الشمول والإلزام .