التّفسير
التعرّف على المنافقين !
يُستفاد من الآياتمحل البحثأنّ جماعة من المنافقين جاؤوا إِلى النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبعد أن تذرعوا بحجج واهية مختلفةحتى أنّهم أقسموا على صدق مدعاهماستأذنوا النّبي أن ينصرفوا عن المساهمة في معركة تبوك ،فأذن لهم النّبي بالانصراف .
فالله سبحانه يعتّب على النّبي في الآية الأُولى من الآيات محل البحث فيقول: ( عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبيّن لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ) .
وهناك كلام طويل بين المفسّرين في المراد من عتاب الله نبيّه المشفوع بالعفو عنه ،أهو دليل على أن إِذن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان مخالفة ،أم هو من باب ترك الأُولى ،أم لا هذا ولا ذاك ؟!
وقد جنح البعض إلى الإفراط إِلى درجة أنّهم أساؤوا إِلى مقام النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم )وساحته المقدّسة ،وزعموا أن الآيات المذكورة أنفاً دليل على إمكان صدور العصيان والذنب من قبل النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،ولم يراعواعلى الأقلالأدب الذي رعاه الله العظيم في تعبيره عن نبيّه الكريم ،إذ بدأ بالعفو ثمّ ثنى بالعتاب والمؤاخذة ،فوقعوا في ضلال عجيب .
والإِنصاف أنّه لا دليل في الآية على صدور أي ذنب أو معصية من النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،وحتى ظاهر الآية لا يدلّ على ذلك ،لأنّ جميع القرائن تثبت أن النّبي سواءً أذن لهم أم لم يأذن ،فإنّهم لم يكونوا ليساهموا في معركة تبوك ،وعلى فرض مساهمتهم فيها لم يحلّوا مشكلة من أمر المسلمين ،بل يزيدون الطين بلة ،كما سنقرأ في الآيات التالية قوله تعالى: ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إِلاّ خبالا ) .
فبناءً على ذلك فإنّ المسلمين لم يفقدوا أيّة مصلحة بإذن النّبي لأُولئك بالانصراف ،غاية الأمر أنّه لو لم يأذن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) لهم فسرعان ما ينكشف أمرهم ويعرفهم المسلمون ،غير أنّ هذا الموضوع لم يكن من الأهمية بحيث أنّ ذهابهم وفقدانهم موجباً لارتكاب ذنب أو عصيان .
وربّما يمكن أن يسمى ذلك تركاً للأولى فحسب ،بمعنى أنّ إِذن النّبي لهم في تلك الظروف ،وبما أظهره أُولئك المنافقون من الأعذار بأيمانهم ،وإن لم يكن أمراً سيئاً ،إلاّ أن ترك الإِذن كان أفضل منه ،لتُعرف هذه الجماعة بسرعة .
كما يُحتمل في تفسير الآية هو أنّ العتاب أو الخطاب المذكور آنفاً إنّما هو على سبيل الكناية ،ولم يكن في الأمر حتى «تركُ الأُولى » بل المراد بيان روح النفاق في المنافقين ببيان لطيف وكناية في المقام .
ويمكن أن يتّضح هذا الموضوع بذكر مثال فلنفرض أن ظالماً يريد أن يلطم وجه ابنك ،إلاّ أن أحد أصدقائك يحول بينه وبين مراده فيمسك يده فقد تكون راضياً عن سلوكه هذا ،بل وتشعر بالسرور الباطني ،إلاّ أنّك ولإِثبات القبح الباطني للطرف المقابل تقول لصديقك: لم لا تركته يضربه على وجهه ويلطمه ؟وهدفك من هذا البيان إِنّما هو إِثبات قساوة قلب هذا الظالم ونفاقه ،الذي ورد في ثوب عتاب الصديق وملامته من قِبَلِك ؟
وهناك شبهة أُخرى في تفسير الآية ،وهي أنّه: ألم يكن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) يعرف المنافقين حتى يقول له الله سبحانه: ( لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ) ؟
والجواب على هذا السؤال ،هو:
أوّلا: أنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يكن يعرف المنافقين ويعلم حالهم عن طريق العلم الظاهري ،ولا يكفي علم الغيب للحكم في الموضوعات ،بل ينبغي أن ينكشف أمرهم عن طريق الأدلة المألوفة و( المعتادة ) .
ثانياً: لم يكن الهدف الوحيد أن يعلم النّبي حالهم فحسب ،بل لعل الهدف كان أن يعلم المسلمون جميعاً حالهم ،وإن كان الخطاب موجّهاً للنّبيّ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .