/م42
{ عفا الله عنك} العفو التجاوز عن الذنب أو التقصير وترك المؤاخذة عليه ، ويستعمل بمعنى الدعاء .أي عفا عما تعلق به اجتهادك أيها الرسول حين استأذنوك وكذبوا عليك في الاعتذار .
{ لم أذنت لهم} أي لأي شيء أذنت لهم بالقعود والتخلف كما أرادوا ، وهلا استأنيت وتريثت بالإذن{ حتى يتبين لك الذين صدقوا} في الاعتذار{ وتعلم الكاذبين} فيه ، أي حتى تميز بين الفريقين فتعامل كلا بما يليق به ، وذلك أن الكاذبين لا يخرجون سواء أذنت لهم أم لم تأذن لهم ، فكان مقتضى الحزم أن تتلبث في الإذن أو تمسك عنه اختباراً لهم .
روى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله:{ عفا الله عنك لم أذنت لهم} قال:هم ناس قالوا:استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أذن لكم فاقعدوا ، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا .
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله:{ والله يعلم إنهم لكاذبون} قال:لقد كانوا يستطيعون الخروج ، ولكن كان تبطئة من عند أنفسهم ، وزهادة في الجهاد .
هذا وإن بعض المفسرين -ولا سيما الزمخشري- قد أساؤوا الأدب في التعبير عن عفو الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ، وكان يجب أن يتعلموا منها أعلى الأدب معه صلوات الله وسلامه عليه ، إذ أخبره ربه ومؤدبه بالعفو قبل الذنب ، وهو منتهى التكريم واللطف ، وبالغ آخرون كالرازي في الطرف الآخر فأرادوا أن يثبتوا أن العفو لا يدل على الذنب ، وغايته أن الإذن الذي عاتبه الله عليه وهو خلاف الأولى ، وهو جمود مع الاصطلاحات المحدثة والعرف الخاص في معنى الذنب وهو المعصية ، وما كان ينبغي لهم أن يهربوا من إثبات ما أثبته الله تعالى في كتابه تمسكاً باصطلاحاتهم وعرفهم المخالف له ولمدلول اللغة أيضاً ، فالذنب في اللغة كل عمل يستتبع ضررًا أو فوت منفعة أو مصلحة ، مأخوذ من ذنب الدابة ، وليس مرادفا للمعصية بل أعم منها ، والإذن المعفو عنه قد استتبع فوت المصلحة المنصوصة في الآية وهي تبين الذين صدقوا والعلم بالكاذبين .وقد قال تعالى:{ إنا فتحنا لك فتحاً مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} [ الفتح:1 ، 2] .
فالتفصي من إسناد الذنب إلى الأنبياء بالتأويل ليوافق المذاهب والقواعد كالتفصي مما وصف الله به نفسه وما أسنده إليها من العلو والاستواء على العرش أو غيرهما من الصفات ، وهو يستلزم جعل بيان نظار المتكلمين لحقائق دين الله أفصح وأبين وأولى بالتلقين من كتاب الله عزَّ وجلَّ الذي وصفه بأنه تبيان لكل شيء ، ولو قيل:إن لازم المذهب مذهب مطلقاً ، وإن لم يفطن له صاحب المذهب ويلتزمه ، كما يقوله الذين يكفرون كثيراً من المخالفين لهم ، لجاز الحكم بكفر هؤلاء المتأولين المحرفين ، ولكن أهل الحق من علماء السلف يمنعون من الحكم بالكفر على الشخص المعين فيما يتأول فيه مما هو كفر في نفسه ، ويعدون من العذر بالجهل ما لا يعده المتكلمون عذراً .
وقد كان الإذن المعاتب عليه اجتهاداً منه صلى الله عليه وسلم فيما لا نص فيه من الوحي ، وهو جائز وواقع من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، وليسوا بمعصومين من الخطأ فيه ، وإنما العصمة المتفق عليها خاصة بتبليغ الوحي ببيانه والعمل به ، فيستحيل على الرسول أن يكذب أو يخطئ فيما يبلغه عن ربه أو يخالفه بالعمل ، ويؤيده حديث طلحة في تأبير النخل إذ رآهم صلى الله عليه وسلم يلقحونها فقال:( ما أظن يغني ذلك شيئاً ) ، فأخبروا بذلك فتركوه ظناً منهم أن قوله هذا من أمر الدين ، فنفضت النخل وسقط ثمرها ، فأخبر بذلك فقال صلى الله عليه وسلم:( إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه ، فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن ، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به ، فإني لن أكذب على الله عزَّ جلَّ ){[1576]} رواه مسلم .
وقد صرح علماء الأصول بجواز الخطأ في الاجتهاد على الأنبياء عليهم السلام ، قالوا:ولكن لا يقرهم الله على ذلك ؛ بل يبين لهم الصواب فيه .ومنه ما تقدم في سورة الأنفال من عتاب الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في أخذ الفدية من أسارى بدر{[1577]} ، والخطأ هنالك أعظم مما هنا ، فغاية ما فيه هنا أنه مخالف لما يقتضيه الحزم ، وكان من لطف الرب اللطيف الخبير برسوله البشير النذير أن أخبره بالعفو عنه قبل بيانه له ، وأما ذاك فقد بدأ عتابه له وللمؤمنين -الذين عمل برأي جمهورهم في أخذ الفدية- بقوله:{ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} [ الأنفال:67] ، ثم بين أنه كان مقتضياً لعذاب أليم لولا كتاب من الله سبق فكان مانعاً ، وسنذكر فائدة أمثال هذا الاجتهاد والخطأ في تفسير الآية 47 وهي قريبة .
ومن مباحث البلاغة في الآية نكتة الاختلاف في التعبير عن الصادقين والكاذبين ؛ إذ عبر عن الأولين بالاسم الموصول بالفعل الماضي ، وعن الكاذبين باسم الفاعل ، وقد بين ذلك أبو السعود بقوله:وتغيير الأسلوب بأن عبر عن الفريق الأول بالموصول الذي صلته فعل دال على الحدوث ، وعن الفريق الثاني باسم الفاعل المفيد للدوام ، للإيذان بأن ما ظهر من الأولين صدق حادث في أمر خاص غير مصحح لنظمهم في سلك الصادقين ، وأن ما صدر من الآخرين وإن كان كذباً حادثا متعلقاً بأمر خاص لكنه أمر جار على عادتهم المستمرة ناشئ عن رسوخهم في الكذب ، والتعبير عن ظهور الصدق بالتبين ، وعما يتعلق بالكذب بالعلم ، لما هو المشهور من أن مدلول الخبر هو الصدق والكذب احتمال عقلي ، فظهور صدقه إنما هو تبين ذلك المدلول وانقطاع احتمال نقيضه بعد ما كان محتملاً له احتمالا عقلياً ، وأما كذبه فأمر حادث لا دلالة للخبر عليه في الجملة حتى يكون ظهوره تبيناً له بل هو نقيض لمدلوله ، فما يتعلق به يكون علماً مستأنفاً ، وإسناده إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لا إلى المعلومين ببناء الفعل للمفعول مع إسناد التبين إلى الأولين لما أن المقصود ههنا علمه عليه الصلاة والسلام بهم ومؤاخذتهم بموجبه ، بخلاف الأولين حيث لا مؤاخذة عليهم .ومن لم ينتبه لهذا قال:حتى يتبين لك من صدق في عذره ممن كذب فيه .وإسناد التبين إلى الأولين وتعليق العلم بالآخرينمع أن مدار الاستناد والتعلق أولاً وبالذات هو وصف الصدق والكذب كما أشير إليهلما أن المقصد هو العلم بكلا الفريقين ، باعتبار اتصافهما بوصفيهما المذكورين ، ومعاملتهما بحسب استحقاقهما ، لا العلم بوصفيهما بذاتيهما ، أو باعتبار قيامهما بموصوفيهما اه .