/م44
قال عزَّ وجلَّّ:{ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم} هذا نفي للشأن يراد به بيان الواقع في نفسه ، فلا يلاحظ في الفعل فيه الزمان الحاضر أو المستقبل الذي وضع له المضارع ؛ بل يشملهما كما يشمل الماضي ، كما تقول:الصائم لا يغتاب الناس ، والذي يزكي لا يسرق ، أي هذا شأن كل منهما ، فالمعنى أنه ليس من شأن المؤمنين بالله الذي كتب عليهم القتال ، واليوم الآخر الذي يكون فيه الأجر الأكمل على الأعمال ، ولا من عادتهم أن يستأذنوك أيها الرسول في أمر الجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم إذا عرض المقتضي له ، لأن هذا من لوازم الإيمان التي لا تتوقف على الاستئذان{ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} [ الحجرات:15] ، وإذا لم يكن من شأنهم أن يستأذنوا في الجهاد بل يقدمون عليه عند وجوبه من غير استئذان لما تقدم آنفا ، بل هم يستعدون له في وقت السلم بإعداد القوة ورباط الخيل من استطاع ذلك منهم ، فهل يكون من شأنهم أن يستأذنوك في التخلف عنه ، بعد إعلان النفير العام له ؟ كلا إن أقصى ما قد يقع من بعضهم التثاقل والبطء في مثل هذا السفر البعيد .
ويحتمل أن يكون المعنى:لا يستأذنك هؤلاء المؤمنون في القعود والتخلف كراهة أن يجاهدوا في سبيل الله ، فإن الجهاد لا يكرهه المؤمن الصادق الذي يرجو الله والدار الآخرة ، ويعلم أن عاقبة الجهاد الفوز بإحدى الحسنيين:الغنيمة والنصر ، أو الشهادة والأجر ، وإنما قد يستأذن صاحب العذر الصحيح منهم وهم الذين قبل الله عذرهم وأسقط الحرج عنهم في الآيتين[ 91 و92] .روى مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا:( من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه يبتغي القتل والموت مظانه ){[1578]} الخ .يعني رجلاً أعد فرسه رباطاً في سبيل الله كلما سمع هيعة أي صيحة لقتال أو في قتال أو فزعة -أي دعوة للإغاثة والنصر فيه- طار على فرسه يبتغي القتل والموت في مظانه ، أي المواضع التي يظن أنه يلقى القتل والموت فيها .
{ والله عليم بالمتقين} له باجتناب ما يسخطه ، وفعل ما يرضيه ، ونيتهم فيه ، وأنه ليس من شأنهم أن يستأذنوا بالتخلف كراهة للقتال ، فهو يجزيهم وصفهم ، وقد استنبط من الآية أنه لا ينبغي الاستئذان في أداء شيء من الواجبات ، ولا في الفضائل والفواضل من العادات ، كقرى الضيوف ، وإغاثة الملهوف ، وسائر عمل المعروف ، ويعجبني قول بعض العلماء ما معناه:من قال لك أتأكل ؟ هل آتيك بكذا من الفاكهة أو الحلوى مثلا ؟ فقل له لا ، فإنه لو أراد أن يكرمك لما استأذنك .