وقد بين الله تعالى أن المؤمنين المجاهدين لا يستأذنون إلا لعذر قاهر ، أو لأمر ظاهر ، كما أمر عليا فارس الإسلام بأن يبقى في المدينة ليكون قريبا من أهل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد تألم علي لذلك لكنه أطاع ، ويظهر أن الله تعالى وفق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إذنه لعلي بالتخلف ، فإنه لم يكن قتال .
قال تعالى:
{ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ( 44 )} .
إن الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر لا يستأذنوك في القعود عن الجهاد ؛ لأنهم يعلمون أن الجهاد فريضة ، ولأنهم أعزاء في ذات أنفسهم ؛ ولأنهم يعلمون أن الله تعالى مبتليهم بالخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس ، ولأنهم يصبرون في الشدائد ، ولأنهم يعلمون أنهم في الجهاد يفوزون بإحدى الحسنتين:النصر أو الشهادة ، وفيهما الخير كله ، فالفوز بإحداهما ، ولأنهم يعلمون أن الدنيا متاعها إلى أجل محدود وأن الآخرة خير وأبقى ، ولذا ذكر الإيمان باليوم الآخر بجوار الإيمان بالله ، فالإيمان بالله اعتماد على القوى المتين ، والإيمان بالآخرة إيمان بالجزاء والعوض عن الحرمان والشهادة .
وقوله تعالى:{ أَن يُجَاهِدُواْ} أي في أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ، وحذف حرف ( في ) في المصدر المنسبك من ( أن وما بعدها ) كثير في كلام العرب ، ويصح أن يقدر كراهية أن يجاهدوا ، وهذا نفي لأن يقع ذلك منهم ، فهم لا يستأذنون في التخلف لكراهية الجهاد ؛ لأنهم لا يكرهون أمرا فرضه الله تعالى ، إذ إن إيمانهم يوجب عليهم أن يحبوا ما أحب الله لهم وفرضه عليهم ، ولأنهم يريدون العزة ، والعزة تحت ظلال السيوف .
{ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} ، أي بإعداد العدة والقوة ، وإمداد الجيش بالمؤن والذخيرة ، وحمل الفقراء الأقوياء إذا لم يجدوا ما يحملهم ، وبأن يتقدموا بأنفسهم في غير اضطراب ولا وجل ، ويفزعون أعداء الله وأعدائهم بإقدامهم ؛ ثم ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى:{ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} ، وهذا إخبار عن علم الله تعالى بالمتقين الذين يتقون عذاب يوم القيامة ، ويتقون أن تكتب عليهم الذلة ، ويتقون أن يستخذوا ،ويستكينوا لأعداء الحق و أعداء الله تعالى ،و يتقون أن يكون للكفار عليهم سلطان ، وأن تكون ولايتهم لغير المؤمنين . الله تعالى عليم بهؤلاء المتقين ، وسيجزيهم بأحسن الجزاء في الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا العزة والكرامة ، والعلو في الأرض من غير فساد ، وفي الآخرة بالنعيم المقيم .